المجلةبنك المعلومات

النفايات السامة .. أوحال سوداء وأمراض غامضة !

قام ناشطون من منظمة ” السلام الأخضر” العالمية المهتمة بشئون البيئة مؤخرا، بالصعود إلى متن واحدة من ” السفن القذرة” المتجهة إلى جنوب شرق آسيا، وهي سفينة سويسرية متهالكة تحمل نفايات سامة كانت في طريقها إلى أعالي البحار، حيث يجري إغراقها عمدا للتخلص منها نظرا لحمولتها الخطرة من الإسبستوس والرصاص والكاديوم والزئبق، وهي مواد شديدة السمية والخطورة تتكلف مئات الآلاف من الدولارات لدفنها بطريقة آمنة، ولهذا يتم إغراقها بحمولتها بعيدا عن أعين السلطات السويسرية ، أو خارج نطاق القوانين الأوروبية الصارمة التي تغض الطرف – غالبا – عن عمليات تصدير النفايات إلى الفقراء في أسيا وأفريقيا ، لتظهر أمراض غريبة لم تكن معروفة من قبل في العالم الثالث.

ويكشف خبراء البيئة العالميون أن النفايات السامة الناتجة عن عمليات الصناعة على مستوى العالم تقدر بنحو 100 مليون طن سنويا، لا يعاد تدوير أكثر من 35% منها فقط، بينما تظل 65 % من هذه النفايات الخطرة في حكم ” مجهولة المصير” وهو ما يعني – ببساطة – أنه تم تصديرها إلى الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا، وذلك وفق منظومة معقدة من عمليات الاتجار في هذه النفايات تتورط فيها دول وجماعات مسلحة ورجال أعمال، ويجري خلالها التحايل على القانون الدولي على ” اتفاقية بازل” التي دخلت حيز التنفيذ عام 1992 .. والسطور التالية – تكشف أسرار – هذه التجارة القذرة الأكثر فسادا وخطرا في العالم الآن.

الهدايا القاتلة

تقول الأرقام إن دول “الاتحاد الأوروبي” تنتج – وحدها  – 8.7 مليون طن من ” النفايات الإلكترونية” كل عام ، فضلا عن الأنواع الأخرى الأشد خطرا من النفايات الصناعية ، وهذه النفايات الإلكترونية عبارة عن أجهزة كمبيوتر وجوال مستعملة، يجري تصدير 6.6 مليون طن منها سنويا إلى بعض دول أفريقيا الاستوائية على أنها ” بضائع قيمة” يتم إهداؤها إلى تلك الدول عن طريق رجال أعمال، على الرغم من تأكد دول المصدر أن هذه البضائع لا يعاد استخدامها مرة أخرى، بل يتم دفنها في باطن الأرض أو التخلص منها في مكبات القمامة تحت جنح الظلام.

ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى توقيع ” معاهدات” لدفن النفايات الخطرة، وهناك اتفاقية موقعة بين فرنسا ودولة بنين الأفريقية الأشد فقرا، تحصل بموجبها حكومة بنين على مبلغ مالي زهيد لا يتجاوز 1.8 مليون دولار سنويا لمدة 30 عاما، مقابل توفير ” مخبأ آمن” للنفايات الفرنسية التي تتضمن مواد مشعة تؤثر على كل مظاهر الحياة الطبيعية، في هذه الدولة بما فيها المياه الجوفية، ويأتي ذلك على الرغم من أن فرنسا إحدى الدول الأوروبية ” القديمة” الموقعة على ” اتفاقية بازل” التي تحظر تصدير النفايات إلى الدول النامية، ناهيك عن كون فرنسا هي أكثر الدول الأوروبية ثقافة وتحضرا ونشاطا في مجال ” حقوق الإنسان” العالمي !

ومن المؤسف أن هناك دولا أفريقية كثيرة تقبل دفن النفايات السامة في أراضيها، ومنها نيجيريا الدولة الأفريقية النفطية الغنية نسبيا، حيث تتجاهل السلطات النيجيرية قيام بعض العصابات المنظمة باستقبال مئات الأطنان من النفايات ودفنها تحت سمع وبصر الجميع، وحسب مصادر منظمة ” السلام الأخضر” العالمية، فإن أطنانا من المواد البلاستيكية التي تم فرزها في ألمانيا ضمن ما يعرف ببرنامج ” النقطة الخضراء” لإعادة تدوير النفايات المنزلية، لم تخضع لأي عمليات إعادة تدوير على الإطلاق، بل أنها عرفت طريقها إلى الصحراء الغربية في مصر، حيث ألقيت هناك دون علم السلطات المصرية حتى هذه اللحظة.

ويقول الدكتور “علاء الدين عبد الوهاب” – أستاذ المناعة بكلية طب القصر العيني بالقاهرة – إن المخلفات المنزلية والنفايات الصناعية التي يتم تصديرها من أوروبا وأمريكا إلى بعض دول أفريقيا، وقد تسبب أمراضا تنفسية وجلدية خطيرة ليس من السهل علاج بعضها، نظرا لأن المواد التي تسببها تحتوي على عناصر شديدة السمية ومحظورة دوليا.

“تشيرنوبيل” أفريقيا

في مثل هذه الأيام من شتاء 2006، وبالتحديد في شهر ديسمبر (كانون أول) من ذلك العام، ظهر أعراض مرضية غامضة على عدد من سكان مدينة أبيدجان في كوت ديفوار ( ساحل العاج سابقا) نتيجة انتشار روائح كريهة غير معهودة من مكبات النفايات في المدينة، وبعد يوم واحد من انتشار هذه الروائح توفى 10 أشخاص ظهرت عليهم أعراض غثيان وقيء ونزيف في الأنف، وهي خليط من عدة أمراض تشبه الكوليرا في تأثيرها القاتل، وخلال ثلاثة أيام فقط كان عدد الذين تم إدخالهم إلى المستشفيات يتجاوز 100 ألف شخص، حتى أن ” منظمة الصحة العالمية” اعتبرت ابيدجان “مدينة موبؤة ” بمعنى الكلمة.

وتبين أن سبب هذا الوباء الغريب هو نحو 400 طن من النفايات السامة التي تم إلقاؤها على سواحل ابيدجان، وكشفت التحقيقات في هذه الكارثة البيئية المروعة عن أسرار وخفايا أكثر ترويعا، وعن حجم تجارة النفايات حول العالم، فقد ظهرت حقائق مفزعة عن مدى تعقد وتشعب هذه التجارة غير المشروعة، فالناقلة الضخمة التي جاءت بهذه الأطنان من السموم إلى ساحل العاج اسمها ” بروبوكوالا” وهي مصنوعة في كوريا وتملكها شركة نقل بحري يونانية، وترفع الناقلة علم بنما، وقد استأجرتها شركة سويسرية – متخصصة في التخلص من النفايات مقرها في هولندا، وهو ما يكشف أن كل ما يعني هذه الدول هو الربح فقط، وليذهب الأفارقة إلى الجحيم !

وكان المشهد في أبيدجان بعد انكشاف المؤامرة يشبه الجحيم حقا، فقد اندلعت المظاهرات في المدينة عندما اكتشفت الجماهير الغاضبة أن الفساد الإداري في البلاد هو السبب وراء هذه الكارثة الصحية التي أسماها الخبراء ” تشيرنوبيل أفريقيا” فقد تجاوز عدد المتضررين منها – بشكل مباشر – المائة ألف شخص، أصابتهم أعراض خطيرة بسبب الأبخرة السامة المتصاعدة في أنحاء المدينة جراء الوحول الغربية من النفايات التي جرى إلقاؤها تحت جنح الظلام في عدة جهات من المدينة، فهجرها غالبية سكانها إلى القرى والمدن المجاورة .

أظهرت التحقيقات التي أجرتها السلطات الهولندية بعد ضغوط شديدة من منظمة ” السلام الأخضر” الدولية، أن الناقلة ” بروبوكوالا” دخلت ميناء امستردام الهولندي في منتصف يوليو (تموز)2006م من أجل معالجة ” أوحال سوداء” من النفايات لدى شركة متخصصة في الميناء مقابل 150 ألف دولار، ولدى تفريغ حمولة الناقلة لمعالجتها اكتشف العمال أن هناك روائح كريهة تنبعث منها، إلى حد أن بعضهم أصيب بالإغماء والغثيان، فرفضوا التعامل مع الشحنة نهائيا، وعندما اكتشف القبطان أن هناك مشكلة بيئية قد تحدث وسيكون هو المسئول عنها، أبحر من هولندا إلى جهة غير معلومة.

وباء غير معلن

بعد عدة أسابيع وصلت الناقلة إلى مرفأ أبيدجان، وهناك أبلغت سلطات كوت ديفوار أنها تحمل ” نفايات غير خطرة” تتطلب معالجة كيماوية خاصة، فسمحت لها السلطات بالرسو في الميناء حيث تعاقدت مع شركة خاصة يملكها أحد السياسيين في البلاد، لمعالجة هذه الشحنة قبل دفنها وقامت الناقلة بضخ حمولتها من الأوحال السوداء إلى صهاريج محمولة على شاحنات تملكها الشركة الوطنية، وذهبت إلى حال سبيلها في أعالي البحار دون أن تعلم شيئا عما حدث لحمولتها الخطرة.

وفي مساء اليوم التالي خرجت من ميناء أبيدجان نحو 30 شاحنة تحمل النفايات السامة، وبدلا من تحمل كلفة معالجتها كيماويا، ألقت الشاحنات بحمولتها في مكبات القمامة تحت ستار الظلام، دون أن يعلم السائقون أنهم سيكونوا من ضحايا الكارثة، فقد تفشت في أنحاء المدينة أبخرة سامة وروائح نتنة لم يعرفها الناس من قبل، وبدأت أعراض الفشل التنفسي تظهر على بعض سكان المدينة، ثم ظهرت حالات نزيف دموي حاد من أنوف الكثيرين تلتها أعراض قيء حادة ظن الناس معها أنه وباء الكوليرا، وفي خلال 24 ساعة فقط لقى 10 أشخاص حتفهم فاشتعلت مظاهرات الغضب، وأعلنت سلطات أبيدجان حالة طوارئ صحية تم على إثرها وضع نحو  100 ألف شخص تحت الملاحظة الطبية، فبدأ الأمر وكأنه وباء معلن عنه.

وأصد المكتب الإقليمي ” لمنظمة الصحة العالمية” في غرب أفريقيا، بيانا أكد فيه أن الأوحال السامة مصدرها هولندا، وأن الناقلة البحرية ” بروبوكوالا” المؤجرة لشركة ” ترافيجورا” السويسرية العاملة في تجارة النفط والمعادن هي المسئول الأول عن هذه الكارثة الصحية البيئية، وأن الشركة تعلم جيدا أن كوت ديفوار برمتها ليس فيها محطة واحدة تستطيع معالجة هذه المواد شديدة السمية، لأنها تحتاج إلى امكانات تكنولوجية غير متوفرة في البلاد، وهي معلومة يعرفها أصغر متخصص في شئون البيئة !

وحتى وقت قريب كانت سلطات أبيدجان الصحية ما تزال تعالج مخلفات هذه الكارثة، بمعونة فنية من الحكومتين الهولندية والفرنسية، وبعد عدة دعاوى قضائية أقامها المتضررون من الكارثة ضد الشركة السويسرية، التي أرغمها القضاء الهولندي على دفع تعويضات للضحايا، وتحمل تكاليف علاج نحو 40 ألف شخص ما زال بعضهم يعاني من الأعراض الغامضة حتى هذه اللحظة.

أحمد جندي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى