استثمارأفكار مشاريعابتكارات جديدهالمجلة

بيوت الطين بغزة.. من فكرة بسيطة لمشروع وطني

لمعت في رأسه فكرة فنفذها، فحاكاه العديد ممن هم بحاجة إلى مسكن يؤويهم، وبعد الحرب التقطت الحكومة الفكرة لتحولها إلى مشروع وطني يواجه الحصار ويستغني عن الاحتلال وانتظار مسكنات الإعمار.. هكذا وباختصار بدأ مشروع بناء البيوت الطينية في قطاع غزة.

بدأت القصة عندما كان جهاد الشاعر -صاحب أول بيت طيني برفح جنوب القطاع- في زيارة لدولة بنجلاديش جنوب شرق آسيا قبل خمس سنوات، وشاهد مئات البيوت المبنية من الطين، ففكر في تنفيذ مثل هذه البيوت ببلده، ويشرح جهاد قائلا: “استعنت بمجموعة من عمال البناء الذين أعرفهم، وقمنا بتصميم البيت على مساحة 80 مترا مربعا من الأرض، وشراء الطين والتبن والرمل.. وبدأنا بصناعة قوالب من الخشب وسكب ما يقارب 4000 إلى 5000 حجر طيني، وقمنا بعمل سقفه بطبقة من الخشب، ثم النايلون فجريد النخيل، ثم وضعنا الطبقة الأخيرة من الطين بسمك 5 سم”، لافتاً إلى أن بإمكانه بناء طابق آخر فوق المنزل الأرضي”.

ويتمتع هذا البيت بدرجة أمانٍ عالية، وتبلغ تكلفته الإجمالية 3000 دولار، أما في حالة بنائه بالأسمنت فإنه سيتكلف 25 ألف دولار، هذا بالإضافة لمنع سلطات الاحتلال دخول مواد البناء للقطاع بحسب الشاعر، ولعل أهم ما يميز البيت الطيني بحسب الشاعر أنه بارد في الصيف، دافئ في الشتاء، كما أن لون الطين طبيعي ويعطي حيوية للبيت، يمكن استخدام الباطون (بقايا الأسمنت الموجود في مخلفات المباني) معه أيضا لو توفر.

تجهيز الطوب الطيني
الطين، الرمل، المياه، التبن.. هي المواد الأولية لبناء بيت بدائي وفقا لقول المهندس هاني البراهمة الذي يشرف على بناء بيت في مدينة غزة على مساحة 150 مترا مربعا مكون من ثلاثة طوابق.

وعن خطوات تجهيز الطوب الطيني يوضح البراهمة: “يؤتى بكتل الطين الصلبة، وتوضع في أوعية كبيرة، ثم يصب عليها كمية من المياه ليتم تذويب الطين، ويترك ليوم كامل فيذوب ويصبح لزجًا.. ثم يضاف إليه الرمل بنسبة 2 للطين: 1 للرمل، ويخلط بالتبن ثم يصب في قوالب من الخشب”، لافتاً إلى أنه كلما قلت لزوجة الطين احتاج  إلى كمية أكثر من الرمل.

ويضيف شارحا: “أبعاد القالب الخشبي30 سم طول، و20 سم عرض، و15 سم ارتفاع، ويصب الخليط في القالب، ثم يرفع القالب، ويبقى لمدة يوم منشورًا في الشمس حتى تصبح قوالب الطين صلبة يمكن استخدامها في البناء”.

ويوضح البراهمة طريقة البناء، قائلا: “في البداية يتم بناء أساسات البيت بأن يحفر في الأرض للوصول إلى المنطقة الصلبة، ثم يبنى بوضع حجرين متجاورين ليصبح عرضهما 40 سم لمقاومة عوامل التعرية كأساس للمبنى، بعدها يتم إقامة الجدران ببناء حجرين متجاورين ليصبح سمك الحائط أيضا 40 سم، أو ببناء حجر واحد مع المداومة على العناية بالبيت سنويًّا، وينوه إلى أن فائدة خلط التبن مع الطين لمنع تشقق الطين بفعل زيادة فقدانه للماء.

أساسات المباني من المخلفات
ويوضح محيي الدين الفرا مدير عام الهندسة والتنظيم والتخطيط بوزارة الأشغال في الحكومة الفلسطينية والمشرف على البناء بالطين بقوله: “توصلنا لنوع من الطين بعد معالجته يكون أقوى من (المونة) الأسمنتية، وبالتالي يمكن بناء كل أساسات المباني بالاعتماد على مخلفات المباني والطين المعالج”.

ويشرح الفرا كيفية استخدام بقايا المنازل المهدمة قائلا: “يمكن التعامل مع الباطون كتعاملنا مع الصخر، بإضافة (المونة) الطينية إليه بعد معالجتها”، ولفت إلى أن وزارته بدأت بصناعة الطوب الطيني بعد تحسين مواصفاته وخلطه بمادة “الكركار” التي تنتجها المحاجر الرملية في القطاع عبر العديد من التجارب من خلال فرق عمل مختلفة بالاستعانة بمختبرات الجامعة الإسلامية ومختبرات نقابة المهندسين بمصر، وبخبرات خارجية عبر التواصل معهم عن طريق الإنترنت.

ويؤكد الفرا أنه يتم تصميم قوالب خاصة لحجر الطين، وتستخدم معامل الطوب العادية التي كانت تستخدم لصناعة الطوب الأسمنتي لإنتاج الحجر الطيني، وحاليا بدأ الشروع في فتح خطوط إنتاج مخصصة لصناعة هذا النوع من الطوب.

كما يشير إلى أن الأسقف يتم بناؤها بدون استخدام الحديد عبر صناعة أقواس وقباب وأشكال تشبه الأقماع عن طريق مصانع الفخار في قطاع غزة، ثم يتم تلبيس الفراغات بالفخار لجعل السطح مستويا.

تدوير النفايات
وبعد الانتهاء من البناء بالطوب الطيني كان لا بد من توفير الخشب اللازم لصناعة الأبواب والنوافذ والمواد الخام اللازمة لصناعة البلاط، ويشير الفرا إلى أن “أحد المهندسين قدم مشروعا يعتمد على تدوير النفايات البلاستيكية لتحويلها لمواد خام يتم صناعة الأبواب والشبابيك منها”.

ويشرح طريقة التدوير بقوله: “يتم صهر هذه المواد التي تقدر بـ40% من مجمل النفايات في قطاع غزة تحت درجة حرارة 18000 درجة مئوية وصبها في قوالب لتفصل بعد ذلك إلى أبواب وشبابيك عبر ورش النجارة المنتشرة في قطاع غزة.. وقد أنتجنا عددا من العينات كانت ذات جودة عالية”.

ويضيف: “بنفس الطريقة تم تدوير هذه النفايات إلى بلاط للأرضيات، واستطعنا الحصول على نوعية بلاط عالية الجودة يعتمد على مادة بلاستيكية تسمى (قنال تكس) تم استخراجها من المخلفات البلاستيكية، ثم يضاف إليها مادة (بولمير) المستخرجة من ركام المنازل”.

ويلفت الفرا إلى أن “هناك فريقا كاملا يتابع هذا المشروع، ويتوقع أن يجعل غزة تعتمد على نفسها في قطاع البناء بشكل كامل”، ويضيف: “حتى مادة الطلاء تمكنا من تصنيعها من خلال الطين ومادة البوليمر”.

مشروع وطني
ويحدد المهندس محيي الدين الفرا المواد التي يحتاجونها للاعتماد على البناء والموجودة بالفعل داخل قطاع غزة:

1. كميات كبيرة من الطين تتنوع بين الطين الحديدي الموجود بكثرة شمال القطاع، والطين الحجري المتواجد في مدينة رفح جنوب قطاع غزة.

2. المحاجر الرملية التي تخلط بالطين لمعالجته (تم اكتشاف العديد من المحاجر في تلة الريس، وتلة الكاشف، وعزبة عبد ربه شمال القطاع، ومنطقة الزنة جنوب القطاع).

3.   الصخور البحرية – تستخدم في بناء الأساسات للمنشآت (متواجدة في أغلب مناطق قطاع غزة بالقرب من الشواطئ).

4.   النفايات الصلبة التي ينتجها قطاع غزة ويصعب التخلص منها (يتم تدويرها لصناعة بديل عن الخشب، ولصناعة البلاط).

وعدد الفرا فوائد المشروع في حال الاستمرار في تنفيذه، فهو يحافظ على المال الفلسطيني “ليتم تدويره في الداخل بدلا من ذهاب 80% منه لشراء المواد الخام من إسرائيل”، كما يسهم في علاج مشكلة البطالة “حيث سيتم تشغيل ما يقارب 10.000 عامل كمرحلة أولى، وبعد عام سيزداد عدد العمال إلى 60.000 ألف عامل، مما سيؤدي إلى إنعاش القطاعات المعتمدة على البناء بحيث ستعمل ورش النجارة ومعامل الحجارة وغيرها من الصناعات”، وأخيرا حل لمشكلة النفايات الصلبة التي تشكل نسبة 40% من مخلفات قطاع غزة.

عقبات تواجه المشروع
وحول أهم العقبات التي تواجه المشروع، أشار الفرا إلى أن المعضلة الحقيقية التي تواجه المشروع قلة الخبرات في طريقة بناء المباني الطينية “فعمال البناء قد اعتادوا بناء المباني التي تعتمد على الخرسانة المسلحة”.

وللتغلب على هذه العقبة أوضح الفرا أن الحكومة بدأت بتنفيذ نماذج لتدريب عمال البناء في مناطق قطاع غزة، وقال: “نحن نعمل على مشروع بناء مبنى مبرة الرحمة من 3 طوابق في مدينة غزة، وجامع الشهداء في المنطقة الوسطى، وأربع وحدات سكنية لأسر دمرت بيوتها في رفح.. بحيث يتم تدريب العمال على البناء بشكل حرفي”.

ويشير المهندس الفرا إلى أن فريق العمل الذي يشرف على المشروع اكتشف أثناء دراسته للمشروع أن أربع دول في العالم تعمل بتنفيذ هذا المشروع بشكل موازٍ وهي “الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والهند ومصر”.

ويضيف: “هذه الدول تعتمد على دراسة العمارة البيئية الموفرة للطاقة بحيث تخفض نسبة استهلاك الطاقة 25%، فلا تحتاج تدفئة في الشتاء أو تبريدا في الصيف، وتحتاج هذه البيوت إلى عمليات إصلاح سنوية، يتم فيها ملاحقة التشققات وتعويض ما يفقد من حبيبات الطين عن طريق عوامل التعرية المختلفة فإذا تمت المحافظة والعناية بالبيت فسيبقى البيت قائما وصالحا للسكن لعشرات السنوات”.

مصطفى الصواف
المصدر: إسلام أون لاين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى