اختراعاتاختراعات طبيةالتطوير النفسيتطوير الذاتشخصيات علميةشهداء العلممبدعون

“ألفار جولستراند”: طبيبُ العيونِ الذي رأى ما لَمْ يرَهُ غيرُه

تشيرُ تقديراتُ منظمةِ الصحةِ العالميةِ إلى وجودِ حوالَي مليارٍ وثلاثِمئةِ مليونِ شخصٍ حولَ العالَمِ يُعانونَ منْ أحدِ أشكالِ ضَعفِ الرؤيةِ. يعنِي ذلكَ الأمرُ أنَّ حوالَي واحدٍ منْ كلِّ سبعةِ أشخاصٍ على سطحِ الكوكبِ يحتاجُ إلى تدخُّلٍ طبيٍّ ما لعلاجِ ذلكَ المرضِ.

يعني ذلكَ أيضًا أنَّ واحدًا منْ كلِّ سبعةِ أشخاصٍ مَدينينٍ بشكلٍ ما إلى “ألفار جولستراند”: السويديِّ الحائزِ جائزةَ نوبل في الطبِّ عامَ ألفٍ وتِسعِمِئَةٍ وأحَدَ عشَر.

فالرجلُ هوَ طبيبُ العيونِ الوحيدُ الحائزُ لتلكَ الجائزةِ تقديرًا لعملِهِ في مجالِ طبِّ العيون. فعلى الرغمِ منْ أنَّ هناكَ أطباءَ عيونٍ آخرينَ حصلُوا على تلكَ الجائزةِ. فـ”والتر هيس” كانَ طبيبًا للعيونِ حصلَ على الجائزةِ عامَ ألفٍ وتِسعِمِئَةٍ وتسعةٍ وأربعينَ، لكنْ لاكتشافِهِ الطريقةَ التي يُنظمُ بها الدماغُ أنشطةَ الأعضاءِ الداخليةِ.

كما حصلَ عليها أيضًا طبيبُ العيونِ “فريتز بريجل” عامَ ألفٍ وتِسعِمِئَةٍ وثلاثةٍ وعشرينَ؛ لابتكارِهِ طريقةَ التحليلِ الجزئيِّ للموادِّ العضويةِ، وهيَ أمورٌ تبتعدُ تمامًا عنْ مجالِ طبِّ العيون.

في بلدةٍ صغيرةٍ على مضيقِ “أوريسند” بجنوبِ السويدِ؛ وُلدَ “ألفار جولستراند” في يونيو عامَ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ واثنينِ وستين. كانَ ابنًا بكرًا لطبيبٍ شهيرٍ يعملُ في البلدةِ. حصلَ على تعليمِهِ الابتدائيِّ في مدينة “لاندسكرونا”. لم يكنِ الصغيرُ يهتمُّ بالتعليمِ؛ إذْ كانَ يُفضلُ التجوالَ في الميناءِ المتاخمِ للمدينةِ لمشاهدةِ السفنِ العملاقةِ.

كما أنَّ عائلتَهُ لمْ تكنْ راضيةً عنْ مستوى التعليمِ في مدرسةِ البلدةِ؛ لذا، حينَ شبَّ “جولستراند” قررتِ العائلةُ الانتقالَ إلى وسطَ جنوبِ السويدِ لتوفيرِ فرصةٍ أفضلَ في التعليمِ لأبنائِها.

وفي تلكَ المدينةِ، التقي “جولستراند” بمعلمِ رياضياتٍ أحدثَ تحولًا في حياتِهِ. اهتمَّ المعلمُ بتعليمِ الشابِّ مبادئَ التفاضُلِ والتكاملِ، وحينَ وجدَ منهُ استجابةً كبيرةً، قامَ بشرحِ الرياضياتِ المتقدمةِ. ثمَّ نصحَهُ بدراسةِ الهندسةِ، وهوَ ما كانَ الشابُّ على وشكِ فعلِه.

غيرَ أنَّ الوالدَ الطبيبَ وظفَهُ خلالَ الصيفِ مساعدًا لهُ. هنا؛ قررَ “جولستراند” دراسةَ الطبِّ والالتحاقَ بسلكِ أبيهِ المهنيِّ. وفي عامِ ألفٍ وثمانِمِئَةٍ وخمسةٍ وثمانينَ، قررَ جولستراند السفرَ إلى فيينا لتعلُّمِ تنظيرِ العيونِ وتنظيرِ الأذنِ وتنظيرِ الحنجرةِ بشكلٍ أفضلَ مما كانتْ عليه في تلكَ الأيامِ في الكلياتِ السويدية. بعدَ عامٍ واحدٍ في فيينا، عادَ لمواصلةِ دراساتِهِ الطبيةِ في ستوكهولم، حيث تخرَّجَ في عامِ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وثمانيةٍ وثمانين.

بعدَ التخرُّجِ؛ التحقَ بعيادةِ طبِّ العيونِ في مستشفى “سيرافيم” مساعدًا لأحدِ أشهرِ أطباءِ العيونِ في ذلكَ التوقيتِ “جوهان ويدمارك”. وبدأَ في طريقِ دراسةِ البصرياتِ مستعينًا بخبرتِه في الرياضياتِ، وبمشورةِ أستاذِهِ “ويدمارك”.

يعودُ البحثُ في الأنظمةِ البصريةِ إلى الماضي البعيدِ، فالرومانُ والعربُ واليونانيونَ حاولوا كشفَ سرِّ الرؤية. ووضعوا العديدَ منَ النظرياتِ حولَ طريقةِ تكوُّنِ الصورِ في العينِ.

كانَ يُعتقدُ في زمانِ “جولستراند” أنَّ الدراسةَ النظريةَ لذلكَ العلمِ انتهتْ، وأنهُ لمْ يعدْ هناكَ ما يُمكنُ إضافتَهُ إلى تلكَ المعرفة. يرجعُ ذلكَ الاعتقادُ جزئيًّا إلى أنَّ تقنياتِ الأنظمةِ البصريةِ واختراعَ العدساتِ والميكروسكوبياتِ حققتْ تقدمًا كبيرًا خلالَ القرنينِ الثامنِ عشَرَ والتاسعَ عشَر.

لكنْ؛ وبعبقريتهِ الفطريةِ؛ رأى “جولستراند” العديدَ منَ المشكلاتِ التي لمْ تظهرْ لأيِّ شخصٍ قبلَهُ، لمْ يُحاولْ أحدُهم الإجابةَ عنِ التساؤلاتِ؛ لكونِها غيرَ موجودةٍ -بمفهومِهِ- منَ الأساس.

تتكونُ الأدواتُ البصريةُ التي صنعَها الإنسانُ منْ موادَّ متجانسةٍ منتظمةِ الشكلِ. ينعكسُ عليها الضوءُ وينكسرُ. عرَفَ العلماءُ القوانينَ التي تحكمُ عملياتِ الانعكاسِ والانكسارِ في تلكَ الأدواتِ. لكنْ: ماذا عنِ العين؟

تُعدُّ العينُ نظامًا بصريًّا معقدًا بشكلٍ خاصٍّ. إذا ما نظرْنا إلى عدسةِ العينِ، فسنجدُ أنَّ قدرتَها الانكساريةَ تختلفُ اختلافًا كبيرًا منْ طبقةٍ إلى أخرى. تلكَ الخاصيَّةُ المُعجزةُ تجعلُنا قادرينَ على الرؤيةِ منْ مسافاتٍ مختلفة؛ فإذا نظرَ شخصٌ صحيحُ البصرِ إلى طريقٍ تملؤُهُ السياراتُ فسيستطيعُ مشاهدةَ الطريقِ والسياراتِ والأعمدةِ والشجرِ بالوضوحِ نفسِهِ، وهذا يرجعُ في الأساسِ إلى قدراتِ عدسةِ العينِ غيرِ المحدودة.

وبالتالي؛ فإذا ما تغيَّرَ شكلُ العدسةِ وقدرتُها الانكساريةُ نتيجةَ ظروفٍ طبيعيةٍ أوْ غيرِ طبيعية؛ يتسببُ ذلكَ الأمرُ في مشكلاتٍ تتعلقُ بتكوينِ الصورةِ البصريةِ في العينِ.

ولأنَّ قدرةَ العينِ بوصفها أداةً بصريةً شرطٌ ضروريٌّ لتعامُلِها كجهازٍ حسيٍّ، فإنَّ وضوحَ الصورِ المنتجةِ على شبكيةِ العينِ هوَ العاملُ الذي يُحددُ قوةَ الإبصار.

لذلكَ فإنَّ دراسةَ تكوينِ الصورةِ البصريةِ في العينِ هيَ فرعٌ مهمٌّ منَ البصرياتِ الفسيولوجيةِ، وكذلكَ طبُّ العيونِ، وقدْ شغلتِ العديدَ منَ العلماءِ المشهورين.

قررَ “جولستراند” الإجابةَ عنْ أسئلةٍ لمْ تشغلْ سواهُ. أسئلةٍ تتعلقُ بانكسارِ الضوءِ، وتكوينِ الصورِ. وبصفتِهِ طبيبًا للعيونِ، أرادَ فهمَ الكيفيةِ التي تتكونُ بها الصورُ المتعددةُ على أبعادٍ مختلفةٍ منَ العينِ بوضوحٍ (كصورةِ السيارةِ والشجرةِ والطريقِ). سرعانَ ما أدركَ “الرجلُ” أنَّ هناكَ الكثيرَ منَ العملِ في انتظارِه.

وعبرَ عشرينَ عامًا كاملةً، اكتشفَ “جولستراند” أشياءً مذهلة، غيرتِ المفاهيمَ التي يعرُفها العلماءُ عنْ أعيُنِ البشر.

في البدايةِ، قررَ أنْ يرسمَ بشكلٍ تفصيليٍّ عمليةَ مرورِ الضوءِ عبرَ وسطٍ يختلفُ مؤشرُ انكسارِه منْ طبقةٍ إلى أخرى. ثمَّ طبقَ تلكَ الطريقةَ على عدسةِ العينِ، واكتشفَ الكثيرَ منَ القوانينِ التي تحكمُ التغيُّراتِ في شكلِ العدسةِ، والتي تسمحُ بتشكيلِ صورٍ واضحةٍ لأشياءَ موضوعةٍ في نطاقاتٍ مختلفة، أوِ التأثيرِ الذي تُحدثُه هذهِ التغيراتُ في انحناءِ الضوءِ على القيمِ الانكساريةِ للعدساتِ البشرية.

وتمكَّنَ منْ سَنِّ مجموعةٍ منَ القوانينِ العامةِ تحكمُ تكوينَ الصورةِ البصريةِ عندَ البشر.

على الرغمِ منْ أنَّ إسهاماتِ “جولستراند” في البصرياتِ تجري مقارنتُها في بعضِ الأحيانِ معَ إسهاماتِ نيوتن، إلا أنها لمْ تكنْ معروفةً ومفهومةً منْ قِبَلِ معظمِ أطباءِ العيونِ في القرنِ العشرين.

إذْ إنَّ “جولستراند” كتبَ ونشرَ معظمَ أبحاثِهِ باللغتينِ السويديةِ والألمانية، مما حدَّ منَ الاعترافِ الدوليِّ بها، كما كانَ أسلوبُها مقتضَبًا ومعقدًا للغاية، وقائمًا على المعرفةِ الرياضيةِ العميقةِ، وهوَ ما صعَّبَ فهمَها حتى على المتخصِّصينَ في مجالِ العيونِ.

في عامِ ألفٍ وتِسعِمِئَة، قدمَ “جولستراند” تفسيرًا لمرضِ “الإستجماتيزم” أو اللابؤرية، وهوَ خللٌ شائعٌ يصيبُ انحناءَ قرنيةِ العينِ، مما يسبِّبُ عدمَ وضوحِ الرؤيةِ عنْ بُعدٍ وعنْ قُربٍ. كما طورَ أيضًا رياضياتٍ خاصةً بالعين. يمكنُ أنْ تفسِّرَ أمراضَها بالأرقام. كما قدمَ نظريةً كاملةً لانكسارِ الضوءِ في العينِ، وصممَ طريقةً لقياسِ ذلكَ الانكسارِ عنْ طريقِ رصدِ ردودِ فعلِ القرنية.

قامَ “جولستراند” كذلكَ بالتعاوُنِ معَ الشركةِ الألمانيةِ الشهيرةِ “كارل زايس” لإنتاجِ مجهرٍ إلكترونيٍّ خاصٍّ بتنظيرِ العيون. وقدمَ فكرةً رائدةً بإمكانيةِ فحصِ قاعِ العينِ بواسطةِ ضوءٍ متقارب، ولا تزالُ تلكَ الطريقةُ تُستخدمُ حتى اليوم.

لمْ يكنْ “جولستراند” مؤثرًا فقط كعالِم، بلْ كمسؤولٍ أيضًا.

فحينَ تمَّ تعيينُه أستاذًا لطبِّ العيونِ في “أوبسالا”. نظمَ العملَ، وافتتحَ عياداتٍ لمْ تكنْ موجودةً سابقًا في جميعِ أنحاءِ المدينةِ مخصصةً حصرًا لطبِّ العيون. وأشرفَ على تصميمِ جَناحٍ جديدٍ لطبِّ العيونِ في السويد؛ وحينَ انتهى منهُ عامَ ألفٍ وتِسعِمئَةٍ وثلاثة، كانَ الأفضلَ منْ نوعِهِ عالميًّا.

في اجتماعاتِ مجلسِ الجامعة؛ كانَ “جولستراند” مهيمنًا، صاحبَ حضورٍ قويٍّ واقتراحاتٍ لامعة.

عندما اقتُرِحَ اسمُ ألبرت أينشتاين لأولِ مرةٍ للحصولِ على جائزةِ نوبل في عامِ ألفٍ وتسعِمِئَةٍ وعشَرة، لاحظتْ لجنةُ الفيزياءِ أنَّ هناكَ حاجةً إلى المزيدِ منَ الأدلةِ التجريبيةِ على نظريتِه، كان ذلك موقفًا معقولًا في ذلكَ الوقتِ.

تمَّ اقتراحُ أينشتاين بشكلٍ متكررٍ وبقوةٍ متزايدةٍ في السنواتِ التالية، لكنَّ الحُججَ ضدَّهُ ظلتْ كما هيَ لعدةِ سنواتٍ.

بعدَ حصولِهِ على نوبل الطب؛ أصبحَ “جولستراند” عضوًا في لجنةِ نوبل للفيزياءِ، وصوَّتَ بقوةٍ ضدَّ آينشتاين، معتبرًا أنَّ نظريتَهُ كانتْ فقط مسألةَ اعتقادٍ غيرَ مُثبتٍ، وليستْ “ذاتَ فائدةٍ كبيرةٍ للبشرية”!

كان “جولستراند” عالمًا لامعًا ذا شخصيةٍ استثنائية. أعطى أوصافًا رياضيةً لنظامِ الانكسارِ للعينِ البشريةِ بدقةٍ غيرِ مسبوقة، واخترعَ وصممَ أدواتِ طبِّ العيونِ التي لا تزالُ قيدَ الاستخدامِ اليوميِّ منْ قِبَلِ أيِّ طبيبِ عيونٍ في العالمِ، حتى الآنَ هوَ طبيبُ العيونِ الوحيدُ الذي حصلَ على جائزةِ نوبل في طبِّ العيون.. وهوَ بالتأكيدِ يستحقُّها عن جدارة؛ رغمَ خطأِ تقديرِه لنسبيةِ “أينشتاين” الفريدة.

وهوَ بالتأكيدِ يستحقُّها عن جدارة؛ رغمَ خطأِ تقديرِه لنسبيةِ “أينشتاين” الفريدة.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى