المجلةابتكارات جديده

هل نحن ذاهبون إلى تعطيل العقل؟ توقعات ما بعد العصر الرقمي

بعد عشرين سنة، ربما على أكثر تقدير لن تعرف الأجيال القادمة الدفاتر والأقلام ورائحة الورق التي أدمناها، إذ تفاجئنا بعض الدراسات التي أجريت في أمريكا وأوروبا، أن كتابة الحرف يدويا أصبح مهمة شاقة بالنسبة للتلاميذ في المدارس، فيما يتقن كل مَنْ هم فوق الأربعين الكتابة جيدا، لكنهم يفضلون استعمال أجهزتهم الإلكترونية للكتابة، فيما ترسل نصوصهم الرقمية بسرعة البرق للمعنيين بدون عناء. كانت هذه التوقعات منذ عشر سنوات مضت.
ومنذ عشر سنوات فكّرت ميكروسوفت في ابتكار قصص رقمية محضة، يكفي أن تمنح لها بعض العناوين العريضة لتتم حبكة القصة المطلوبة للقارئ حسب عمره، ويتم إطلاقها، مرفقة بالصور وبالصوت أيضا، إلى هنا يبدو المشروع ممتازا لكنه في حقيقة الأمر مثير للخوف، كون الكُتاب ذوي المخيلات المتقدة ستنتهي مهنتهم عند عتبة الأجهزة المستقبلية، التي ستتولّى أدوارهم في سرد الحكايات وتأليفها، حسب معطيات تقوم على خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والقدرات الشخصية لمخيلاتهم. السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل نحن ذاهبون إلى تعطيل العقل؟ أم إلى منحه ميزات إضافية؟ إن توقف العقل عن الابتكار ألن يضمر؟

قد يجد البعض ما يشاكسني به سائلا هل الورق والأقلام وسائل عديمة الفائدة اليوم للتعليم، ونشر العلم والثقافة؟ وقد يكون السؤال ملغما والجواب أكثر تلغيما، لكن ألم تتوقف فنلندا في مدارسها عن استعمال الأقلام والأوراق لتلاميذها؟ ألم يبلغ هذا الزحف القارة الأمريكية الشمالية بقوة، فبدأت المدارس منذ 2014 بالتخلي عن الأقلام اليدوية؟ مع أن الأقلام الجافة لم يدم استعمالها أكثر من نصف قرن فقط في المدارس، بعد أن أحدثت ثورة حقيقية لتعويض الأقلام الحبرية المتعبة للتلاميذ، التي دام استعمالها أربعة قرون تقريبا، خاصة بعد أن طورها المخترع الأمريكي لويس إيدسون ووترمان ومؤسس شركة ووترمان سنة 1884 وجعل حامله يعوّض زجاجة الحبر بخرطوشة بلاستيكية سهلة الحمل والاستعمال عند انتهاء عبوة الحبر. وكان الدافع مؤلما لاختراعه ذاك، حين خسر صفقة مهمة بسبب انكسار قلمه لحظة توقيعه للعقد، وانسكاب الحبر على أوراق العقد مرتين متتاليتين، رغم اقتنائه أقلاما جديدة لتحمسه للصفقة.
فما الذي نتحدث عنه بالضبط؟
نحن نتحدث اليوم عن رحلة القلم والورقة، قصة حب جميلة ورومانسية، بدأت منذ زمن طويل ودامت قرونا، وهي اليوم تصل إلى نهاية مؤسفة، بحيث أصبح الحرف عويصا على رسمه بالأصابع الرّشيقة التي تمسك قلما، وتتفنن في إتقانه، في العالم كله كسرت التكنولوجبا صعوبة إتقان الكتابة يدويا، فأصبح الحرف جاهزا، بكبسة زر واحدة، ولعلّ هذا ما سيجعل كل الأجيال السابقة تحمد الله على نعمة لم نعشها، نحن الذين تعلّم بعضنا الكتابة بعد أن تلفت يداه من ضربات المعلم بالعصا. تنهي التكنولوجيا ذلك العذاب الذي عرفناه في مدارس، بعض أساتذتها يشبهون جلاّدي السجون، بحيث كانت العصا جزءا من أدوات التعليم الأساسية.
شيئا فشيئا تنحسر الأتربة عن قصتنا «الرومانسية» عن الأقلام والأوراق، فنكتشف أنها لم تكن كذلك فعلا، فبعض جوانبها كانت مظلمة، في بعض مجتمعاتنا وليس كلها طبعا، كانت صناعة القلم من القصب مهمة التلميذ في بواكير عمره، وصناعة الحبر أيضا، وكل من لا يتقن صناعة قلمه وحبره فعليه أن يتحضر للعقاب المناسب له، وظلّ العقاب رفيقا لنا إلى أن ودّعنا المدارس، كون قلم الحبر أيضا كانت له عيوبه، فهو يكشف أخطاءنا اللغوية التي لا يمكن تصحيحها بأي نوع من الطرق، فقد وصلنا القلم السحري الذي يمسح الحبر ونحن في الجامعة.

فكم هو محظوظ جيل اليوم، والأجيال القادمة، وهم يتخطون كل تلك المراحل التي كانت رحلة شاقة لنا لنتعلّم الخط… صدقا ـ رغم أني لم أعش معاناة في هذا الأمر، كون خط يدي واضحا وجميلا جدا- لكنني عشت معاناة الآخرين حولي، وأتذكر بعض تفاصيلها المؤلمة إلى يومنا هذا. اليوم حين حلّ زمن الكتابة الجاهزة يتحول القلم إلى هدية ثمينة، بحيث يصل ثمن بعض الأقلام فيها إلى أرقام خيالية، مثل قلم «مون بلان» المرصع بـ1430 حبة ماس بسعر مليون ونصف دولار!
أكثر الأقلام غلاء في العالم مصنوعة من الذهب ومرصعة بالماس، لكن الملاحظ أنها جميعها أقلام حبرية، مع عودة الريَش القديمة التي ترافقها زجاجات الحبر إلى الأسواق الفاخرة، كنوع من الهدايا الثمينة للأثرياء، مفرغة تماما من كل دلالاتها التاريخية القيِّمة.
تحوُّل الأقلام إلى هدايا مجرّدة من وظيفتها الأساسية يجعل البعض يرى أنها لا تزال تحافظ على قيمتها، كون ابتكار هذه الأقلام الفاخرة يعوّض الخسائر التي لحقت بمصانع الأقلام، بعد اكتساح الحرف الجاهز المدارس الغربية، لكن الشيء الذي خسر قيمته هو الورق، لكن تأثير هذه النقلة الحضارية الصادمة من الملموس إلى المحسوس قد لن نعرف نتائجه الآن، بل يلزمنا المزيد من الوقت لمعرفة ما إذا كان استعمال القلم للكتابة أفضل للعقل من استعمال الحرف الجاهز والأجهزة الإلكترونية المتساهلة مع العقل.

الباحثون عن حلول لحماية تجارة الورق المتراجعة، يقترحون تعويض كل ما يسيء للبيئة من صناعات بلاستيكية بالورق، وبالطبع أكثر المقترحات تجد طريقها للتنفيذ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن المشكلة الوحيدة التي تبدو مبهمة اليوم وتمضي بنا نحو المجهول، هي مصير العقل البشري، فهل تراه سيصاب بعطب بسبب تقليص استعماله؟ أم أنه سيتأقلم ويتطوّر مع كل هذه التطورات الحضارية الصادمة له؟
يقول المختصون حول الموضوع أن العقل خلال الكتابة اليدوية يعمل وفق حركة تكوين الحرف، ثم تكوين الكلمة، أما مع مفاتيح الكتابة فيعمل لإيجاد موقع الحرف وتحديد المسافة بين كلمة وأخرى، ويؤكدون أن الذاكرة تعمل أكثر خلال الكتابة اليدوية، ما يجعل المناطق الحسية للدماغ أكثر نشاطا، هذا الأمر تعمّقت فيه المحاضرة مارييك لونغكامب المختصة في الأسس المعرفية والعصبية للكتابة اليدوية عند البالغين والأطفال، والتفاعلات بين المعالجة اللغوية والتحكم الحركي في الكتابة اليدوية، والكتابة بلوح المفاتيح، وتغيرات الدماغ الوظيفية أثناء العمليتين، وخلصت إلى نتائج مبكرة تحذِّر فيها من إدخال الأطفال في دوامة الحرف الجاهز، والتخلي عن الكتابة اليدوية، والاكتفاء بالأجهزة الإلكترونية للتعلم، كما نبّهت أيضا لافتقار النصوص التي تُكتب من طرف الأطفال على لوح المفاتيح للمحتوى الدلالي والنحوي للنصوص، وأنه يجب أن لا نخدع بالنتائج الجيدة التي يحققها الجيل المخضرم، الذي تعلّم الكتابة والتأليف يدويا، ووجد في لوح المفاتيح ما يُسَرِّع عملية الكتابة، وسهولة تصحيح نصه، لكنّ تكوينه الأساسي هو الذي بنى قاعدة متينة لدماغه ليكون مبتكرا.
تُقرع أجراس الخطر الداهم لدماغ الإنسان بسبب التكنولوجيا، من مختبرات دراسة التحولات الخطيرة، التي قد تدمّر الذكاء البشري بسبب الحرف الجاهز، منادية بالحفاظ على قدرات الفرد على الكتابة والقراءة، لأنّهما أهم نشاطين يحافظان على اللغة، والتفكير، والابتكار، وإلاّ فإن هذه المرحلة هي مرحلة بداية الانحدار لإنتاج إنسان بدماغ معطّل، وهي بالضبط مرحلة ما بعد العصر الرقمي بكل مساوئها وما تحمله من انهيارات كبرى للمنجز الإنساني الذي حققه بعد قرون من الاجتهاد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى