اختراعاتاختراعات تكنولوجيه

ابتكار كبسولات روبوتية فائقة السرعة لعلاج سرطان القولون

بعد سنوات طويلة من البحث، تمكَّن العالم اللامع “يان بينيس” من تطوير طريقة لتقليص البشر، والأسلحة، وغيرها من الأشياء لفترات قصيرة من الزمن. كان “بينيس” يعمل في ما كان يُعرف سابقًا بالاتحاد السوفيتي، إلا أنه طلب من المخابرات الأمريكية، العدو اللدود لهذا الكيان آنذاك، مساعدته على الانتقال إلى الولايات المتحدة لإكمال أبحاثه في جو من الحرية. وفي أثناء عملية نقله، تعرض للهجوم، وأصيب بجلطة دموية في الدماغ كادت تُودي بحياته. وفي محاولة لإنقاذه، استخدمت المخابرات الأمريكية تقنيةً متقدمة لتقليص أحجام فريق من العلماء الأمريكان، ووضعهم داخل غواصة نووية، ثم حقن هذه الغواصة داخل مجرى دم العالم الفذ.

كان ذلك هو الخط الدرامي لفيلم الخيال العلمي الحائز على جائزتي أوسكار “رحلة مذهلة”، الذي تم إنتاجه عام 1966. غير أن الخيال العلمي يتحول رويدًا رويدًا إلى واقع، بطبيعة الحال لم يتمكن العلماء إلى الآن من تقليص حجم البشر، إلا أنهم تمكنوا بالفعل من صناعة روبوتات صغيرة ودقيقة، يُمكن حقنها داخل مجرى الدم، لإصلاح خلل الأنسجة، وتدمير الخلايا السرطانية. فوفق دراسة علمية نُشرت نتائجها في دورية “ساينس روبوتكس”، نجح فريق علمي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في ابتكار روبوت فائق الصغر Microrobots، يُمكنه حمل شحنات من الأدوية إلى مواقع مستهدفة داخل الجسم، عبر التحكم فيه من خارج الجسم بواسطة شعاع من الضوء.

في مواجهة الضرر

عندما يصاب عضوٌ ما في جسم الإنسان بالضرر، يمكن لنا توجيه الأدوات المساعدة في العلاج إليه مباشرةً كوسيلة علاجية مباشرة وموجهة إلى العضو ذاته، كأن نضع كمادة على رُكبة مُصابة، أو قطرة لعين جافة، أو حتى جبيرة لذراع مكسور، وهو ما يُعد أحد الممارسات الطبية القديمة قِدَم الطب نفسه. ولكن في كثير من الأحيان لا يُمكن الوصول إلى أماكن الضرر، خاصةً حين يكون ذلك الضرر ناجمًا عن ورم سرطاني، يختبئ داخل خلايانا، وفي عمق أجسادنا.

في تلك الحالة يلجأ الأطباء إلى الإجراءات العنيفة، إما الجراحة التي تستهدف إزالة الورم عبر شق الأجساد والأعضاء، وإما العلاج الكيميائي الذي أثبت كفاءةً كبيرةً في علاج الأورام، لكن بآثار جانبية شديدة القسوة. فالعلاج الكيميائي يُدمر الخلايا سريعة النمو، ولا يُميز بين الخلايا السرطانية وغيرها، وهو أمر يُحدث ضررًا وخيمًا على سائر الأعضاء.

لكن، ماذا لو وجد العلماء طريقةً لابتكار نظامٍ ما لتوصيل الدواء إلى عمق الورم، ودون حقنه في مجرى الدم؟ يعمل العلماء منذ وقت طويل على ذلك الأمر، ويحاولون تصميم أدوية فعالة قادرة على الوصول إلى الأورام دون الإضرار بالخلايا الأخرى السليمة. إلا أنهم واجهوا العديد من المشكلات، من ضمنها الكيفية التي تتعرف بها الأدوية على الأورام؟ والطريقة التي يُمكن بها توصيل الدواء إلى الورم تحديدًا.

الوصول إلى العمق

لذا تُسخر الكثير من الفرق البحثية مجهودها للوصول إلى “حامل” آمن وفعال للدواء، قادر على الوصول إلى محطته النهائية المقصودة دون غيرها. وبالفعل، تمكنت مجموعة بحثية من قسم هندسة الروبوتات في معهد دايجو جيونجبوك للعلوم والتكنولوجيا بكوريا الجنوبية من ابتكار روبوت صغير للغاية، مصمم للسفر عبر مجرى الدم البشري لتوصيل العلاج مباشرةً إلى الأعضاء التي تحتاج إليه. نشر الفريق البحثي الكوري نتائجه في دورية “نيتشر” عام 2016، واعتمد ذلك التصميم على محاكاة الطريقة التي تتحرك بها البكتيريا والميكروبات داخل الجسم، إلا أنه بمجرد حقن ذلك الروبوت داخل مجرى الدم، يفقد الفريق القدرة على التحكم به، لذا يُمكن أن يضل الروبوت طريقه ولا يصل مطلقًا إلى العضو المُصاب، أو حتى يُمكن أن يصل إلى المكان المراد ولا يُطلق الدواء في الموضع المستهدف.

وفي أول العام الجاري، قام فريق آخر من جامعة زيورخ بالتعاون مع قسم الرياضيات التطبيقية بجامعة كامبريدج من ابتكار روبوت مرن، يستطيع تغيير شكله وفقًا لمحيطه، بمعنى أن الروبوت الصغير قابل للطي، ويُمكنه السباحة بكفاءة أكبر في الأوعية الدموية الملتفة والضيقة، نشر الفريق تلك الدراسة في دورية “ساينس أدفانسيس”، وجاء في تلك الورقة أن الروبوت قادر على تعديل شكله، والحفاظ على سرعته وعلى قدرته على المناورة دون أن يفقد السيطرة على اتجاه الحركة. غير أنهم –شأنهم شأن الفريق الكوري الجنوبي- لم ينجحوا في السيطرة على الروبوت أو توجيهه بمجرد حقنه في الأنابيب الزجاجية الضيقة التي صُممت لمحاكاة الأوعية الدموية للبشر.

استهداف آمن وفعال

والآن، نجح فريق بحثي في ابتكار روبوت دقيق، له القدرة على حمل الدواء، والوصول إلى المكان المطلوب، وتفريغ الدواء على الأورام، عبر عمليات تحكُّم مدروسة وكاملة، وبسيطرة محكمة على الروبوت بعد حقنه داخل مجرى الدم، وهو ما وصفته نتائج الدراسة الجديدة بـ”الإشارة الواعدة بإمكانية توظيف تقنية الروبوتات فائقة الصغر في تقنيات العلاج الموجه في المستقبل القريب”.

يتكون الروبوت الجديد من كرات مجهرية مصنوعة من المغنيسيوم، ومغلفة بطبقات رقيقة من الذهب والباريلين –بولمير مقاوم للهضم- تترك الطبقات جزءًا دائريًّا من الكرة مكشوفًا، يشبه الفتحة الصغيرة، لإظهار جزء من المغنسيوم الذي يتفاعل مع السوائل في الجهاز الهضمي، مولدًا فقاعات صغيرة، يتدفق تيار من هذه الفقاعات باستمرار لتدفع الكرات المجهرية للأمام، حتى تصطدم بالأنسجة المجاورة لها.

بمفردها، قد تكون الكائنات المجهرية كروية المغنيسيوم التي يمكن تكبيرها مثيرةً للاهتمام ، لكنها ليست مفيدةً بشكل خاص. لتحويلها من مجرد فكرة مبتكرة إلى وسيلة تقنية لإيصال الأدوية، أجرى باحثو الدراسة بعض التعديلات عليها.

فقد اعتمدت عملية تصنيع الروبوت على خطوتين: في الخطوة الأولى قام الباحثون بتصميم المحركات الصغيرة المصنوعة من المغنيسيوم، وضع معدُّو الدراسة جسيمات دقيقة بقطر 20 ميكرونًا من المغنسيوم على شرائح زجاجية، ثم قاموا بترسيب طبقة ذهبية ثم تم طلاء المحرك بطبقة من الهيدروجيل، وفي النهاية، تم ترسيب طبقة من الباريلين لتعمل كسقالة تضمن الثبات في أثناء الدفع. وفي الخطوة الثانية، قام العلماء بتغليف المحركات الصغيرة داخل كبسولات، تحتوي بداخلها على المادة الدوائية الفعالة.

إذًا، لدينا الآن روبوت دقيق، داخله طبقة من الدواء مُغلفة داخل كبسولات صغيرة مصنوعة من شمع البارافين، ومحصورة بين طبقتين مجهريتين من الذهب والباريلين، تهدف تلك الطبقات إلى حماية الدواء من البيئة القاسية للمعدة، ولدينا أيضًا فقاعات ناتجة عن تفاعل المغنيسيوم مع أحماض المعدة.. لكن كيف تعمل آلية التحكم بمسار الروبوت؟

تقنية ليزرية فائقة الدقة

استطاع الباحثون استخدام نوع من تقنيات التصوير المقطعي الضوئي -الصوتي، وهي تقنية تستخدم الليزر والموجات الصوتية لأخذ صور مقطعية للجسم، لدفع تلك الفقاعات في اتجاهات مُحددة بدقة، تجعلها تصل إلى الورم بسهولة. إذ تقوم هذه التقنية المعروفة بالتصوير المقطعي المحوسب PACT ببث ضوء ليزري إلى الأنسجة، تمتص جزيئات الهيموجلوبين الحاملة للأكسجين الضوء، ولأن الشعاع مُحمل بالطاقة، تُكسب تلك الطاقة الجزيئات الموجودة في خلايا الدم الحمراء قدرةً على إحداث اهتزازات، يتم التقاط تلك الاهتزازات بجهاز الموجات فوق الصوتية المتصل بأجهزة استشعار موضوعة على جلد المريض، يتم استخدام تلك البيانات المُستقاة من المجسات لإنشاء صورة هيكلية داخلية لجسم المريض.

يُستخدم التصوير المقطعي الضوئي على نطاق واسع في التطبيقات الطبية الحيوية، بسبب دقته العالية، وهو يختلف تمامًا عن تقنيات التصوير التقليدية التي تعجز عن الكشف عن الأنسجة العميقة، إذ إن حدودها لاختراق النسيج لا تزيد عن مليمترين في أحسن الأحوال. أما في التصوير المقطعي الضوئي فيتم تحويل طاقة الفوتونات التي تمتصها الأنسجة إلى موجات صوتية تخترق أعماق النسيج حتى 48 مليمترًا، لتصور خلايانا من الداخل بدقة تُعادل 125 ميكرونًا (1 سنتيمتر = 10000 ميكرومتر).

استخدم الباحثون تلك التقنية، ليس فقط لرسم الصور لأنسجة المريض وخلاياه، ولكن أيضًا لقيادة الروبوت الدقيق داخل الجسم والتحكم فيه، فجهاز التصوير قادر على استشعار الاهتزازات الناجمة عن تفاعل المغنيسيوم وأحماض المعدة، وحين تُرصد الفقاعات يرسل الأطباء شعاعًا ليزريًّا للتحكم في حركتها، على حد قول أستاذ الهندسة الطبية والكهربائية بمعهد كاليفورنيا “ليهونج وانج”، وهو مؤلف تلك الدراسة.

ويقول “وانج” في تصريحات خاصة لـ”للعلم”: إن فكرة استخدام أشعة الليزر لحث الروبوت على الحركة في اتجاه معين “جديدة للغاية”، مشيرًا إلى أن عملية التحكم في الروبوت “تجرى عن طريق التحكم في الفقاعات الناجمة عن تفاعل المغنيسيوم مع أحماض المعدة”.

بتلك الطريقة، حلت الدراسة معضلة التحكم في الروبوتات التي تُحقن داخل المعدة، لكن ماذا عن عملية إطلاق الدواء نفسه في المكان المراد؟ يقول أستاذ الهندسة الطبية المساعد بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا “وي جاو”، وهو باحث مشارك في تلك الدراسة: إن الليزر له الدور الأكبر في تلك العملية أيضًا.

فحين تصل الروبوتات إلى موقعها، يُرسل الباحثون موجة مستمرة عالية الطاقة من أشعة الليزر لتنشيطها، ونظرًا إلى أن الكريات الصغيرة المصنوع منها الروبوت تمتص بقوة أشعة الليزر، فإنها تسخن لفترة وجيزة، فيذوب الشمع المحيط بالدواء، ويختلط بالأنسجة المراد علاجها، ومعه يختلط العنصر الدوائي بالورم.

ويقول “جاو” إن تلك الروبوتات تستطيع اختراق الجهاز الهضمي، والبقاء فيه مدةً طويلة، ما يحسِّن من عملية توصيل الدواء. كما يؤكد أن الروبوتات المصنوعة من المغينسيوم متوافقة حيويًّا مع جسم الإنسان، وقابلة للتحلل، دون ترك أي أثار مدمرة على الصحة.

كائن ثوري جديد

أظهرت الاختبارات التي أُجريت على نماذج حيوانية أن الروبوتات المجهرية تعمل على النحو المنشود، كما أكدت الدراسة إمكانية وصول الروبوت إلى المنطقة المريضة، وتفعيله. ووفق ما ورد في الورقة العلمية، فإن ذلك الروبوت مخصص للقضاء على أورام القولون والجهاز الهضمي، إلا أن “جاو” يقول إن الفريق البحثي بصدد تطوير أشكال مختلفة من الروبوتات التي يُمكن أن تعمل في أجزاء أخرى من الجسم.

ويقول “جاو” إن التطبيقات المحتملة لذلك الروبوت تشمل تشخيص الأمراض، وتسليم الأدوية، وإجراء الجراحات البسيطة. إذ تُظهر المحركات الكيميائية الدافعة للروبوت الدقيق إمكانات هائلة؛ نظرًا إلى قدرتها على دفع الروبوت ذاتيًّا داخل سوائل الجسم. كما أن الدراسة وطريقة التوجيه ومتابعة مكان الروبوت داخل الجسم وفرت حلًّا جذريًّا للمشكلة التي استعصت على العلماء، ألا وهي رصد مكان الروبوت داخل الجسم، والقدرة على توجيهه إلى النسيج المراد التعامل معه.

تقول الباحثة في مجال الفيزياء الحيوية بجامعة كولومبيا “فيني كاتاسامبا”، والتي لم تشارك في الدراسة: إن الروبوت الدقيق الجديد، جنبًا إلى جنب مع استخدام تقنية التصوير المقطعي الضوئي، يُشكلان “كائنًا ثوريًّا جديدًا يُمكن أن يعالج أجساد المرضى”. إذ ترى “فيني” أن نتائج الدراسة الحالية تُشير إلى فوائد في جهات متعددة، الأولى هي قدرة الروبوت على الاحتفاظ بالدواء لحين وصوله إلى منطقة الهدف، أما الثانية فهي تَمكُّن الباحثين من تحديد مكان الروبوت في الوقت الحقيقي، وأما النتيجة الثالثة التي تصفها “فيني” بـ”الكبيرة” فهي استخدام تقنية التصوير نفسها لتنشيط المادة الدوائية وإطلاقها وتحريك الروبوت الدقيق في الاتجاهات المطلوبة.

لا تزال تلك التقنية تحت التجريب، ولا يُمكن في الوقت الحالي أن نثبت كفاءتها في العمل لدى البشر، كما يقول مؤلف الدراسة “ليهونج وانج”، الذي يؤكد أن نقل الروبوت إلى داخل الجسم البشري “ربما يحتاج إلى عامين للتأكد من قدرتنا الكاملة على التحكم فيه”، إلا أنه يقول: “إن الروبوت، وطريقة رصده، والتحكم في مساره، خطوة على طريق لا تزال طويلًا.. طريق تحتاج إلى تضافُر كل الجهود لإدخال كائنات دقيقة إلى أجسادنا.. ليس بهدف إمراضها، ولكن لعلاجها”.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى