المجلةبنك المعلوماتشخصيات أدبيهشهداء العلمعباقرةمبدعوننابغون

طه حسين الكفيف الذي أضاء حياة ملايين المُبصرين 

طه حسين الكفيف الذي أضاء حياة ملايين المُبصرين 

  • “عميد الأدب العربي” كان واحدا من 13 طفلاً في أسرة فقيرة تعيش في مجاهل صعيد مصر
  • صديق والده أكد أن “طه” لا يصلح إلاّ أن يكون قارئا للقرآن عند المقابر يتصدق عليه الناس!
  • أستاذه الشيخ كان يسخر منه ويعتبر طموحه مجرد أحلام يقظة.. ويصيح فيه: “اقرأ يا أعمى”
  • العقاد: طه حسين رجل “جريء العقل” مفطور منذ بداية مسيرته العلمية على المناجزة والتحدي
  • عبقريته تتجلى في قهر العاهة والتخلص من أسْر الجهل الذي كان سائدا في بيئته وعصره
  • هكذا أصبح الطفل البائس ابن القرية الصغيرة وزيرا لـ”المعارف” وأحد أساطين الثقافة العربية
طه حسين
طه حسين

لم يعرف تاريخ الثقافة على مستوى العالم، قديمه وحديثه، رجلا في قامة وقيمة الراحل الكبير الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، الكفيف الذي فقده بصره مبكرا بسبب الجهل، فلم يفتّ ذلك في عضده أبدا، بل على العكس، أطلق شعاره الشهير “التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن”، وأضاء بهذا الشعار حياة ملايين المُبصرين في مصر والوطن العربي.

إن طه حسين الذي كان واحدا من 13 طفلاً في أسرة فقيرة تعيش في مجاهل صعيد مصر، صار بإصراره وجده واجتهاده واحدا من أساطين الثقافة العربية والإسلامية بل والعالمية، وكان، وما يزال، أمثولة حية لقول الشاعر العربي أبو فراس الحمداني “لعمرك ما الأبصارُ تنفعُ أهلها.. إذا لم يكن للمبصرينَ بصائرُ”.

“اقرأ يا أعمى”

ولد “طه” في 15 نوفمبر 1889 من أسرة فقيرة في قرية صغيرة تابعة لمدينة “مغاغة” إحدى مدن شمال الصعيد في مصر، وكان سابع أطفال والديه من بين 13 طفلاً وطفلة، فقد بصره وهو في الثالثة من عمره عندما أصيب بالرمد وقتها وتلقى علاجا خاطئا، بسبب جهل أسرته، فعاش كفيفا مدى الحياة.

ألحقه أبوه بكُتّاب القرية، ليتعلم اللغة العربية وتلاوة القرآن الكريم، أملا في أن يصبح “طه” الصغير قارئ قرآن كعادة المكفوفين في تلك الأيام، بناء على نصيحة صديق والده الذي أكد أن نجله لا يصلح إلاّ أن يكون قارئا للقرآن عند المقابر يتصدق عليه الناس، وهي النصيحة التي أصابت الصبي بصدمة عنيفة، ظل يذكرها بمرارة طوال حياته.

وكان “طه” طفلاً انطوائياً، لا يتحدث مع أحد ولا يشاطر أحداً اللعب، وحفظ الطفل القرآن في مدة قصيرة أذهلت شيخه وأترابه، وكان والده يصحبه أحياناً لحضور حلقات الذكر والاستماع إلى سيرة الأبطال الشعبيين مثل عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي.

ويورد طه حسين في سيرته الذاتية “الأيام” التي تحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تليفزيوني، عن هذه الفترة من حياته آيات من طموحه خلال أحاديثه مع أخواته، وهو ما زال في القرية، إذ كان يقول لهن إنه “سيذهب إلى أوروبّا، وينعم فيها بالحياة الهادئة الهانئة، وأنه سيصطحب معه إلى مصر من هناك زوجةً مثقفة وليست جاهلة مثلهنّ”.

وكان الجميع يسخر من أحلام هذا الفتى الطموح بمن في ذلك أهله وأصحابُه ومعارفُه، وكان أستاذه الشيخ يهزأ به، ويعتبر كلامه مجرد أحلام يقظة لكفيف مغرور، ويصيح فيه: “اقرأ يا أعمى”!

وفي عام 1902 بدأ “طه” رحلته الكبرى عندما غادر القاهرة متوجها إلى الأزهر طلبا للعلم، ثم التحق طه حسين بالجامعة المصرية وتلقى دروسا في الحضارة الإسلامية والحضارة المصرية القديمة الجغرافيا والتاريخ واللغات السامية والفلك والأدب والفلسفة على أيدى أساتذة مصريين وأجانب.

وفى تلك الفترة أعد الرجل رسالة الدكتوراه الأولى في الآداب التى نوقشت في 15 مايو 1914 عن أديبه الأثير أبي العلاء المعري. ولم تمر أطروحته من غير ضجة وجدول واسع على المستوى القومي.

طه حسين
طه حسين

اغفري لي.. فأنا أحبك!

وفي عام 1914 سافر طه حسين  إلى فرنسا، والتحق بجامعة “مونبلييه”، ثم أكمل بعثته في باريس وتلقى دروسا في التاريخ وعلم الاجتماع،  حصل على دكتوراه في الاجتماع عام 1919، عن العلامة العربي الشهير عبدالرحمن بن خلدون، ثم حصل في نفس العام على دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية.

في تلك الفترة تعرف إلى السيدة سوزان بريسو التي تطوعت للقراءة له بالفرنسية أثناء الدراسة، وأصبحت فيما بعد قرينته، فقد جمعهما ذات مساء سوياً كتاب ما كانت تقرأه له «سوزان» ليفاجئها الرجل بهذه العبارة الغريبة: “اغفري لى، لابد من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك”!

وصرخت «سوزان» من وقع المفاجأة، وردّت بفظاظة: “ولكنّي لا أحبك”، فقال «طه» الذي كان لا ينتظر جواباً ولكنه كان يحبها وحسب: «إننى أعرف ذلك، جيدا وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل”، وبعد ذلك تحول “المستحيل” إلى واقع، وأحبته “سوزان” بالفعل، وفاتحت أهلها برغبتها في الزواج من هذا الشاب العربي الكفيف غريب الأطوار، لكنهم رفضوا ذلك بشدة.

في 9 أغسطس 1917، تزوج طه حسين بالسيدة “سوزان” التى كانت لها عظيم الأثر في حياته، فقامت له بدور القارئ فقرأت عليه الكثير من المراجع، وأمدته بالكتب التي تم كتابتها بطريقة الأحرف البارزة “برايل” ليقرأ بنفسه، كما كانت الزوجة والصديق الذي دفعه للتقدم دائماً وقد أحبها الرجل حباً جماً، ومما قاله فيها أنه “منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم”، وأنجبا طفلين هما “أمينة ومؤنس”.

وعاد طه حسين إلى مصر في عام 1919 وعُيّن أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة، واستمر كذلك حتى تحولت الجامعة في ذلك العام إلى مؤسسة حكومية فأصبح أستاذا لتاريخ الأدب العربى بكلية الآداب.

وفي عام 1926 ألف طه حسين كتابه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي” الذي رأى فيه أن الشعر الجاهلي “منحول”، وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للشعراء الجاهليين، فتصدى له العديد من علماء الفلسفة واللغة ومنهم مصطفى صادق الرافعي والخضر حسين ومحمد لطفي جمعة والشيخ محمد الخضري وغيرهم. كما قاضى عدد من علماء الأزهر طه حسين إلا أن المحكمة برأته لعدم ثبوت تعمده الإساءة المتعمدة للإسلام، فعدّل اسم الكتاب إلى “في الأدب الجاهلي” وحذف منه المقاطع الأربعة التي أثارت جدلا.

وهكذا، ظل الرجل طوال مسيرته يثير العواصف حوله، في مؤلفاته المتتابعة ومقالاته المتلاحقة وإبداعاته المتدافعة، ولم تفقد مسيرته التنويرية التي توهج جذوتها العقلانية قط، سواء حين أصبح عميدًا لكلية الآداب سنة 1930.

وكان صلب المراس، لا يخشى أحدا في الحق، فقد رفض الموافقة على منح “الدكتوراه الفخرية” لكبار السياسيين المصريين وقتها، الأمر الذي أدى إلى طرده من الجامعة التي لم يعد إليها إلا بعد ذلك بسنوات.

ولم يكف عن حلمه بمستقبل الثقافة خلال عقد الأربعينات من القرن الماضي، حتى تم تعيينه وزيرًا للمعارف عام 1950، فوجد الفرصة سانحة لتطبيق شعاره الأثير “التعليم كالماء والهواء.. حق لكل مواطن”.

ويقول المفكر الكبير د. جلال أمين “لم يشغل طه حسين منصبا سياسيا إلا لأقل من سنتين عندما اختاره مصطفى النحاس وزيرا للمعارف، ولكنه أصبح بسرعة أشهر وزير، بتوسيعه نطاق مجانية التعليم حتى نهاية الدراسة الثانوية، بجملته البليغة فى تبرير ذلك «العلم كالماء والهواء» التى استخدمها بعده كل مدافع عن مجانية التعليم.

وكان بلا شك يتمتع بقدر من الفصاحة فى الكتابة والحديث بالعربية الفصحى، يفوق ما كان لأى كاتب آخر من جيله، كما كان أكثرهم جرأة فى تحرى الآراء المألوفة فى الأدب، بل وبعض الآراء الدينية السائدة. ضمن له ذلك الشهرة ولكتبه الذيوع والانتشار، فتردد وصفه بأنه «عميد الأدب العربى»

دعا طه حسين إلى إحداث نهضة أدبية وثقافية عربية، وعمل على الكتابة بأسلوب سهل واضح مع المحافظة على مفردات اللغة وقواعدها، ولقد أثارت آراءه الكثيرين كما وجهت له العديد من الاتهامات، ولم يبالي طه بهذه الثورة ولا بهذه المعارضات القوية التي تعرض لها ولكن أستمر في دعوته للتجديد والتحديث، فقام بتقديم العديد من الآراء التي تميزت بالجرأة الشديدة

والصراحة فقد أخذ على المحيطين به ومن الأسلاف من المفكرين والأدباء طرقهم التقليدية في تدريس الأدب العربي، وضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، ومدرسة القضاء وغيرها، كما دعا إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية للطلاب، هذا بالإضافة لأهمية إعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية، والأدب ليكونا على قدر كبير من التمكن، والثقافة بالإضافة لاتباع المنهج التجديدي، وعدم التمسك بالشكل التقليدي في التدريس.

طه حسين
طه حسين

 

عبقرية طه حسين

يعتبر الكاتب ناصر عراق أن “عبقرية طه حسين” تتجلى في أمور كثيرة، منها قهر العاهة التي عطلت حاسة البصر لديه إلى الأبد وهو ما زال طفلاً صغيرًا، فلم يخضع لذل العمى، ولم يمتثل للقوانين التي تفرضها العاهات دائمًا على من يُبتلون بها، ومنها أيضًا التخلص من أسْر الجهل الذي كان سائدًا في بيئته وعصره بصورة مخيفة.

وتعلم وأعمل عقله وتأمل، وتخفف من حمولة الخرافات والأساطير التي كانت تثقل أكتاف ذويه وأهله، فاكتشف لذة التفكير، وحارب الخزعبلات، وطارد الذين يروجون لها ويحتقرون العقل وقدراته، فأصاب كثيرًا وحقق نجاحات لم يسبقه إليها أحد قبله ولا بعده حتى هذه اللحظة.

ولم تتوقف عبقرية “العميد” عند هذا الحد، بل سطعت أنوارها في مجال الإبداع كذلك، فخاض في فن الرواية وهو ما زال غضًّا يقترب منه المبدعون بحذر، وترجم الكثير من كلاسيكيات الأدب العالمي ليتسنى لنا نحن أبناء العربية معرفة كيف كان يكتب الآخرون ويبدعون من أصحاب الأمم المتقدمة التي سبقتنا في صناعة الحضارة وقطف ثمارها.

أما مواقفه الصلبة أمام الذين يتشددون كلما جاء برأي جديد أو فكرة تخاصم قناعاتهم المتحجرة فحدث عنها وأفاض، وكذلك ينبغي الوقوف أمام مقدرته على مواجهة بطش السلطات التي تؤكد أن الرجل ينحاز دومًا إلى ما يرى أنه الحق، وأنه لا يمالئ ولا ينافق إذا كانت هذه الممالأة وهذا النفاق سيجوران على حريته في الفكر والفعل.

وفي أحد حواراته الصحافية قال طه حسين إن أهم التحولات في حياته «ثلاث نقاط: الأولى: هي السفر لأوروبا؛ لأنه حوّلني من التقليد إلى التجديد. والثانية: هي الزواج؛ لأنه أخرجني من وحدتي وأسعدني بنعمة الحب، والثالثة: هي إنجاب الأبناء؛ لأنه جعلني أشعر بالحنان”.

وقال عنه الكاتب العملاق عباس محمود العقاد إنه “رجل جريء العقل كان مفطور منذ بداية مسيرته على المناجزة والتحدي، فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي المستمر بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير”.

إن الظلام الذي أطبق على طه حسين مبكرا، في بداية حياته، لم يزده إلا إيمانا وقوة وعزما على مضاعفة طموحه وتطلعاته والانطلاق بصبر حثيث، وعزيمة لا تُقهر، وإرادة لا تعرف الوهن، نحو سبر كل مجهول، وتحقيق أهدافه، وبلوغ غاياتٍ لم تخطر لأحد من قبل على بال.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى