المجلةبنك المعلومات

محمد يونس.. المسلم الذي علّم العالم كيف “يُقتل الفقر”!

 

  • المجاعة قتلت مليونا ونصف المليون بنغالي عام 1974 فنجح “يونس” في مساعدة ملايين الفقراء في بلاده
  • تجربة “يونس” عُممت فى أكثر من 40 بلداً وأصبحت منهجاً يجرى تدريسه فى جامعات غربية
  • عملاء بنك “غرامين” وصلوا في عام 1983 إلى 59 ألف عميل يخدمهم 86 فرعاً
  • المصرفي العالمي الأشهر: كنت أدرس “نظريات اقتصادية رائعة” بينما كان الناس يموتون جوعا في الشوارع
  • “يونس”: عندما تُلهمك غاية عظيمة ستحطم أفكارك القيود.. وستجد نفسك في “عالم مدهش”

 

 

عندما تُلهمك غاية عظيمة أو مشروع خارق، فإن أفكارك ستحطم قيودها، وسيتجاوز عقلك الحدود، وستجد نفسك في عالم جديد، مدهش وعظيم”.

هذه العبارة الكاشفة للبروفيسور البنغالي المسلم محمد يونس، أستاذ الاقتصاد ذي السمعة العالمية، مؤسس “بنك غرامين” أو “مصرف الفقراء” الشهير، والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2006، هي بمثابة “الكلمات المفتاحية” لتجربته الرائعة في مساعدة الفقراء في بنجلاديش، وهي الكلمات التي ألهمت الملايين حول العالم.

واستطاع مؤسس “بنك الفقراء” الذي لم يمتلك سيارة أبدا، أن يقلب موازين العمل المصرفي الدولي، وأن يعلّم العالم كيف “يُقتل الفقر”، فقد قدم “بنك غيرامين”، وهي تعني “القرية” بلغة البنغال، منذ تأسيسه في عام 1976 وحتى الآن، 5.7 بليون دولار في صورة قروض صغيرة لنحو 6.6 مليون مواطن بنغالي كان ثلثاهم يعيشون “تحت خط الفقر”، وصار البنك اليوم يمتلك نحو 2200 فرع في أنحاء البلاد، وتم “استنساخ” فكرته في دول كثيرة لكي ينتشل نحو 100 مليون إنسان من الفقر.

أفكارك جنونية!

ولد محمد يونس عام 1940 في احدى قرى مدينة “شيتاجونغ” التي كانت مركزًا تجاريا لمنطقة البنغال شمال شرق الهند، وكان الثالث ضمن 9 أطفال لعائلة مسلمة، وكان والده يعمل صائغا، وقضى طفولته المبكرة في القرية حيث درس هناك حتى عام 1944، ثم انتقلت عائلته إلى المدينة، واجتاز يونس المرحلة الثانوية العامة وحصل على الترتيب 16 من 39 ألف طالب في “باكستان الشرقية” وقتها.

وبعدها درس يونس في كلية “شيتاغونغ”، وأصبح عضوا نشطا في كل الأنشطة الثقافية بالكلية. وفي عام 1957 التحق في قسم الاقتصاد في جامعة “دكا”، وأكمل درجة البكالوريوس في عام 1960، وحصل على الماجستير في عام 1961.

وحصل يونس في عام 1965 على منحة من مؤسسة “فولبرايت” لدراسة الدكتوراه في احدى جامعات ولاية تينيسي الأمريكية، ثم عاد إلى بنغلاديش في عام 1972 ليصبح رئيسًا لقسم الاقتصاد في جامعة “شيتاجونغ”.

وفي تلك الفترة كان أهالي بنغلاديش يعانون ظروفًا معيشية صعبة، وجاء عام 1974 لتتفاقم معاناة الناس بحدوث مجاعة مات فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون شخص جوعا.

وخلال زياراته للأسر الأكثر فقراً في قرية “جوربا” بالقرب من جامعة، اكتشف أن القروض الصغيرة جداً يمكن أن تحدث فرقاً لهؤلاء الفقراء، حيث وجد مجموعة من النساء يصنعون من الخيزران أثاثاً يعتمدون على القروض الربوية لشراء الخامات، ولهذا فإن حتى أرباحهم تذهب للمقرضين. ولم تكن البنوك التقليدية تريد أن توفر قروض صغيرة بفائدة معقولة للفقراء بسبب ارتفاع المخاطر الافتراضية على البنوك، فمضى الرجل يحاول إقناع “البنك المركزي” أو البنوك التجارية في البلاد بوضع نظام لإقراض الفقراء بدون ضمانات، وهو ما دعا رجال البنوك للسخرية منه ومن أفكاره التي وصفوها بـ”الجنونية”!

وإثر فشله في مساعيه تلك، جاءته فكرة “بنك غيرامين” من امرأة قروية كانت تعمل في صناعة الكراسي المصنوعة من البامبو، صادفها في الطريق بالقرب من جامعته. ومن حديثه معها عرف أنها لكي تشترى المواد الخام اللازمة لصناعة تلك المقاعد تُضطر إلى الاقتراض من التجار الذين تبيع لهم منتجاتها لاحقا. ولأنها تعتمد عليهم في الاقتراض وفي تصريف بضائعها أيضا، فإنهم يتحكمون في تحديد سعري فوائد القروض وشراء المنتج، ولا يتركون لها سوى هامش من الربح لا يكفي قوت يومها.

المصرفي النابغة

في 1 أكتوبر 1983، بدأ المشروع التجريبي لـ”بنك غرامين”، وواجه يونس ومعاونوه معارضة شديدة من رجال الدين المحافظين في البلاد الذين قالوا أن النساء لن يدفنوا على الطريقة الإسلامية إذا اقترضن المال من البنكن ولكن بحلول يوليو 2007، أقرض “غرامين” عملاءه من الفقراء 6.38 مليار دولار أمريكي حصل عليها 7.4 مليون مقترض.

ويقول الكاتب “لالان جوليس” الذي شارك في إعداد كتاب عن حياة يونس بعنوان “المصرفي النابغة” على لسان يونس: «بينما كان الناس يموتون جوعا بالشوارع، كنت أدرس نظريات اقتصادية رائعة، وكنا جميعا كأساتذة بالجامعة أذكياء للغاية، ولكننا لم نكن نعرف شيئا على الإطلاق عن الفقر المحيط بنا، فقررت أن الفقراء أنفسهم سيكونون هم معلميّ”!

ويضيف “يونس”: “تكلمت مع 42 شخصًا في القرية ممن كانوا واقعين في فخ الفقر، لأنهم يعتمدون على قروض التجار المرابين، وكان كل ما يحتاجونه من ائتمان هو 30 دولاراً فقط. فأقرضتهم هذا المبلغ من جيبي، وفكرت في أنه إذا قامت المؤسسات المصرفية العادية بنفس الشيء؛ فإن هؤلاء الناس يمكن أن يتخلصوا من الفقر. إلا أن تلك المؤسسات لا تقرض الفقراء، وخاصة النساء الريفيات”.

بدأ يونس تجربته بإقراض 42 امرأة من الفقراء مبلغا بسيطا من ماله الخاص بدون فائدة، ودونما تحديد لموعد الرد. ولأنه رأى عدم إمكانية الاستمرار في ذلك فقد مضى يحاول إقناع البنك المركزي أو البنوك التجارية لوضع نظام لإقراض الفقراء بدون ضمانات، وهو ما دعا رجال البنوك للسخرية منه ومن أفكاره، زاعمين أن الفقراء ليسوا أهلا للإقراض، وعبثاً حاول إقناعهم أن يجربوا، ومن ثم فقد اقترض قرضاً خاصا ليبدأ به مشروعا في قرية جوبرا. وبمساعدة طلابه أمضى في متابعته ودراسته من عام 1976 حتى عام 1979 في محاولة لإثبات وجهة نظره بأن الفقراء جديرون بالاقتراض، وقد نجح مشروعه نجاحا باهرا وغير حياة 500 أسرة من الفقراء.

وحصل يونس أخيرا على قرض من الحكومة عن طريق مصرف “جاناتا” لإقراض الفقراء في قرية جوربا، وواصلت المؤسسة العمل، وتأمين قروض من البنوك الأخرى لمشاريعها، حتى وصل عدد المقترضين من المصرف 28 ألفا بحلول عام 1982.

وفي تلك المرحلة، قرر “يونس” إنهاء حياته الأكاديمية وأن يمضي قدما في طريقه حيث تم اعتماد بنك “غرامين” كمؤسسة مستقلة لترتبط حياته بهذه المؤسسة التي كانت حلمًا فصارت واقعًا واعدًا منذ تلك اللحظة وإلى الأبد. وساهمت الحكومة في هذا البنك بنسبة 60 % من رأس المال المدفوع بينما كانت الـ40 % الباقية مملوكة للفقراء من المقترضين.

ذكرى حادث أليم

في حوار مع صحيفة “المصري اليوم”، يتذكر يونس محطات مسيرته الحافلة قائلا: “فى عام 1974 تفاقمت معاناة الناس في بلادي بوقوع مجاعة راح ضحيتها ما يقرب من مليون ونصف المليون من الفقراء، وكان هذا الحادث الأليم هو الحافز الذى غيّر حياتي تماما وقلبها رأسا على عقب”.

وأوضح يونس: “وبينما كان الناس يموتون جوعاً، كنت أدرس نظريات الاقتصاد المختلفة من الكتب والمراجع العلمية المرموقة، بالإضافة إلى آليات التنمية الاقتصادية، ومختلف العلوم المالية التى تهدف فى ظاهرها إلى الحد من الفقر حول العالم، ولكن تطبيقها على أرض الواقع أمر مستحيل، فأخذت بعضاً من طلابى فى رحلات ميدانية إلى القرى الفقيرة المجاورة للحرم الجامعى فى شيتاجونج، وفكرت فى كيفية إحداث تغيير جذرى فى حياة هؤلاء الفقراء، وبعد البحث وجدت أن أوضاع الفقراء لا تتيح لهم توفير أى مبلغ من المال لتحسين أوضاعهم مهما بلغت جهودهم فى العمل، فقد كانوا يقترضون من المرابين مبالغ ضئيلة من المال ويعملون ليلاً ونهاراً لرد تلك المبالغ وفوائدها، فأعددت قائمة بأسماء الفقراء الذين اقترضوا تلك الأموال ووجدت أن عددهم وصل إلى 42 شخصاً، بينما كان إجمالى المبلغ الذى اقترضوه من المرابين 27 دولاراً فقط”.

وهكذا “قررت مساعدتهم فأعطيتهم المبلغ من جيبى الخاص لكي يردوه للمرابين، دون تحديد أى فائدة أو موعد ليردوا المبلغ لى، ومن هنا جاءتنى فكرة إقراض الفقراء، وحاولت إقناع البنك المركزى ومختلف البنوك التجارية فى بنجلادش لوضع نظام لإقراض الفقراء خاصة النساء دون ضمانات.

ولكن كيف استقبلت البنوك تلك الفكرة؟

أجاب يونس أن “موظفي البنوك زعموا أن الفقراء ليسوا أهلا للقروض وأن النساء لابد أن يضمنهن فى القروض أزواجهن، فأجبتهم بأن القروض لابد من إعطائها لمن هو أكثر حاجة لها مثل الفقراء، فما فائدة إعطاء القرض لمن لديه المال ليقدم الضمانات اللازمة! كما أن الزوج لا يحتاج إلى ضمان زوجته عندما يتقدم للحصول على قرض من البنك، وهى تفرقة لا إنسانية قائمة على أساس مادى، ومن هنا حاولت إقناع البنك بأن أكون أنا الضامن لمجموعة من قروض الفقراء، فى محاولة لإثبات وجهة نظرى بأن الفقراء جديرون بالاقتراض حقا”.

ونجح المشروع وأثبت كل المقترضين الذين بدأوا باقتراض مبالغ صغيرة وقاموا بردها أنهم أهل للثقة، وفى عام 1976 اقتنع البنك المركزى البنغالي أخيرا بنجاح الفكرة وتبنى مشروع «بنك غرامين»، الذى وصل عدد عملائه والمقترضين منه إلى 8 ملايين عميل، 97% منهم من النساء، ويعمل فى فروعه المختلفة 27 ألف موظف يذهبون إلى الفقراء فى بيوتهم ليساعدوهم.

وفي عام 1981 زاد من حجم المشروع ليشمل 5 مقاطعات، وقد أكدت كل مرحلة من تلك المراحل فاعلية نظام القروض المتناهية في الصغر حتى وصل عملاء بنك “غرامين” عام 1983 إلى 59 ألف عميل يخدمهم 86 فرعاً.

وعُممت تجربة يونس لمساعدة الفقراء فى أكثر من 40 بلداً على مستوى العالم، بل إن نظام الاقتراض الذى ابتكره وطبقه من خلال بنك “غرامين”، أصبح منهجاً علمياً يجرى تدريسه فى جامعات غربية مثل جامعة “دريسدن” الألمانية.

وفي عام 1995 دعا البنك الدولي الدكتور يونس الى الاشراف على انشاء فرع لمصرف “غرامين يتبع” للبنك الدولي نفسه. وحين يُسأل يونس عن الدوافع التي حدت به الى انشاء بنك الفقراء، فهو يجيب: “لقد وضعت ثقتي الكاملة في الفقراء. ففي جميع أنحاء العالم تمارس البنوك نوعاً من التفرقة المالية، فهي لا تقرض إلا الأغنياء، وتعتقد أن الفقراء لا يصح إقراضهم لأنهم لن يستطيعوا السداد. لكن الواقع يقول إنك إن اعطيت الفرصة للفقير فهو لن يضيعها، لأنه يدرك أن بقاءه على قيد الحياة يتوقف عليها”.

وفى التحليل الأخير، فإن رؤية محمد يونس تتلخص في بناء عالم خال من الفقر، فقد كتب في مقال له بعنوان “مصرفي من أجل الفقراء” نشرته عدة صحف ومواقع  عالمية “سيكون الانجاز المتمثل في إيجاد عالم خال من الفقر أكبر من كافة هذه الانجازات، إضافة إلى انه سيعمل على تعزيزها وسيصبح عالما يمكننا جميعا أن نفخر بالعيش فيه”

 

زر الذهاب إلى الأعلى