المجلةبنك المعلومات

نيقولا مكيافيلّي.. أيها الفيلسوف كم من شرور ارتُكبت باسمك!

 

  • كتابات مكيافيلّي كانت تهدف بالأساس إلى توحيد إمارات إيطاليا المتصارعة بأي وسيلة
  • لم يكن مجرد كاتب أو صاحب نظرية فقط.. بل كان منخرطا بقوة في الحياة السياسية لعصره المضطرب
  • المقولات الواردة في “الأمير” كانت مبررا لكثير من الأفعال القمعية للنظم الحاكمة في العصر الحديث
  • علماء النفس باتوا يستخدمون مصطلح “الماكيافيلية” لوصف الشخصية التي تتصف بـ”انعدام الأخلاق”
  • موسوليني اختار كتاب “الأمير” موضوعاً لرسالة الدكتوراه الخاصة به.. وهتلر كان يقرأه قبل أن ينام كل ليلة

 

الفيلسوف الإيطالي الشهير نيقولا مكيافيلِّي هو “أبو النظرية السياسية الحديثة”، وقد عُرف منهجه في المجال السياسي الذي وضعه في كتابه الأشهر كتاب “الأمير”  باسم “المكيافيلِّية” نسبةً إليه، وهو ما بات يعني في الأدبيات العالمية “النفعية السياسية”، ثم أصبح يُستخدم على نطاق عالمي واسع كـ”دلالة على الشر”.

وتعد مقولة مكيافيلِّي “الغاية تبرر الوسيلة” الواردة إجمالا في كتاب “الأمير” هي المبرر لكثير من الأفعال القمعية للنظم الحاكمة التي اتبعت أسلوبه في فرض السيطرة على الشعوب، وإن لم يكن الرجل مسؤولا عما ارتُكب باسمه من شرور!

وُلِد نيكولو دي برناردو دي مكيافيلّي في مدينة “فلورنسا” الإيطالية عام 1496 لأسرة نبيلة، ولم يتلق تعليما عاليًا، ولكنه ثقّف نفسه بنفسه من خلال قراءة الكتب الإغريقية والرومانية كما كان يفعل أبناء طبقته في ذلك العصر، وأظهر ذكاء حادا مكّنه من أن يشق طريقه بين أقرانه من الشبان.

ماكيافيلّي شابا

والمعلوم تاريخيا عن حياة مكيافيلّي كشاب نزر يسير،  ولكن الثابت أنه تثقف ثقافة أبناء الطبقة المتوسطة المعتادة في عصره فقرأ في تاريخ اليونانيين والرومان  القدامى، فضلا عن الترجمات اللاتينية لمختلف أمهات الكتب الإغريقية القديمة.

وفي كتابه المعنوّن “تاريخ فلورنسا” يقدم مكيافيلّي صورة عن الشباب الذين قضى معهم فترة شبابه، حيث يقول: “لقد كانوا أحراراً أكثر من آبائهم في ملبسهم وحياتهم، وصرفوا الكثير على مظاهر البذخ، مبذرين بذلك أموالهم ووقتهم طمعاً بالكمال، واللعب، والنساء. لقد كان هدفهم الرئيسي هو أن يبدو الشخص فيهم بمظهرٍ حسن وأن يتحدث بلباقة وذكاء، وقد اعتبروا أن من يجرح الناس بذكاء هو أحكمهم”!

وتقلّد “نيكولو” في مطلع حياته العملية منصباً إدارياً صغيرا في الحكومة، وزار خلال ذلك البلاط الملكي في فرنسا وألمانيا وعدة مقاطعات إيطالية أخرى، في بعثات دبلوماسية، حيث عاصر في شبابه وطور نموه ازدهار إمارة فلورنسا وعظمتها كقوة إيطالية بازغة تحت حكم أسرة “ميديتشي” الشهيرة، حيث التحق الشاب بالخدمة العامة وتدرج فيها حتى أصبح دبلوماسيا من طراز رفيع، بحكم ثقافته الواسعة وعراقة أصله النبيل.

وانتُخب سكرتيرًا للمستشارية الثانية لجمهورية فلورنسا التي كانت تشرف على الشئون الخارجية والعسكرية للإمارة، واستمر في منصبه 14 عامًا، ثم غزا الجيش الفرنسي المدينة، وأسقط حكم عائلة “مديتشي”، ويبدو أن مكيافيلّي تعاون مع الغزاة، وعمل تحت إمرتهم زمنا، ثم نجح الإيطاليون في طرد الفرنسيين، وحين عادت الأسرة للحكم تم عزله من منصبه وسجنه ثم نفيُه إلى الريف.

وفي عام 1504 تزوج ماكيافيلي من فتاة ذات من أصل عريق تنتمي لأسرة ثرية، وتُدعى مارية لويس كورسيني، وقيل فيما بعد إن طمعه في مال زوجته هو الذي دفعه للاقتران بها؛ والحقيقة أن “صداقها” الذي حملته إليه شيئًا مذكورًا.

وكان ماكيافيلي في السنين الأولى التي تلت زواجه مشتغلًا بدرس التاريخ ونظم الشعر، وبتنظيم الهيئات السياسية والحربية، وكان يدعو الناس باسم حب الوطن، وهذه عاطفة لم تكن موجودة في عصره إلا في نفوس لفيف من الخاصة فحسب.

الفيلسوف في المنفى

لم يكن مكيافيلّي بذلك مجرد كاتب أو فيلسوف أو صاحب نظرية فحسب، بل كان منخرطا بقوة في الحياة السياسية المضطربة التي مرت بها “فلورنسا” في الفترة التي عاش فيها.

وفي منفاه، انعزل عن الحياة السياسية، ولكنه كان يرصد تحرُكات الفلاحين والعمال ويتحدث معهم عن أوضاع الحكم بشكلٍ يومي، وهناك ألَّف كتابه “الأمير” الذي تم نشره بعد وفاته بخمس سنوات، وهوجم بشدة إلى حَدِّ منعه وتحريم قراءته وحرق كل نسخه في روما، ولم يتم نشر فكره النفعي بعد ذلك بشكل مُوسع إلا في القرن الثامن عشر حين ازدهر “عصر النهضة” الأوروبي.

وتأتي أهمية كتاب “الأمير” التاريخية من كونه بداية من بدايات وضع أساس فكر سياسي إنساني بعيد عن الدين ودون تدخل من الكنيسة. ويُبرر بعض المحللين رؤيته التي تسمح باستخدام كل الوسائل في الصراع السياسي للوصول إلى هدف نبيل، بأنها نابعة من صراعات عصره الذي يختلف تماما عن العصور التالية.

واعتمد الرجل أثناء حياته في منفاه الريفي على دخل بسيط من ممتلكاته في الضواحي، وكان يستيقظ مبكرًا ويخرج إلى الغابة يتحدث للحطابين ويتبادل معهم الأقاويل والشائعات ثم يذهب إلى أحد التلال وحيدًا، وهناك يقرأ الكتب. وبعد أن يتناول غداءً خفيفًا، يمضي إلى الحانة فيتحدث مع الطحان والقصاب وبعض البناءين، ويقضي معهم طيلة فترة الظهيرة يلعبون الورق والنرد ويتشاجرون على دراهم معدودة. وعندما يأتي المساء يعود للمنزل ويغير ثيابه الريفية التي عادة ما تكون قد أصابتها الأوساخ والقاذورات أثناء جولته، ويرتدي ملابس البلاط والتشريفات لكي يكون في صحبة أصدقائه ويدخل إلى مكتبته الخاصة، وكان خلال ذلك الوقت يدون الملاحظات الأولية في كتابه “الأمير”.

ولم يُنشر “الأمير” إلا بعد وفاة مؤلفه بخمس سنوات، ولم يفهمه الكثيرون، بل هاجموه حتى أصبح اسمه ملازماً للشر دائماً حتى في الأوساط الشعبية الأوروبية، وأول من هاجم مكيافيلي هو الكاردينال بولس، مما أدى لتحريم الاطلاع على الكتاب ونشر أفكاره، ووضعت إمارة روما “الأمير” عام 1559 ضمن الكتب الممنوعة وأُحرقت كل نسخ الكتاب علنا.

ولكن، عندما بزغ “عصر النهضة في أرجاء أوروبا ظهر من يدافع عن مكيافيلّي ويترجم كتبه وأشهرها “الأمير”، ولم يصل الرجل وفكره لما وصل إليه الآن من شهرة عالمية إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، عندما مدحه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وآخرون.

ويوما بعد يوم، صار “الأمير” على رغم حظره، من أشد الكتب تأثيرا في التاريخ السياسي للبشرية، فعندما تربع نابليون بونابارت على الإمبراطورية الفرنسية لم يتردد في قراءته والاستفادة منه، كما تأثر به كل من فريدريك الأكبر ملك بروسيا، وبسمارك، وقد اتسعت هذه الحلقة في القرن العشرين.

وفي العصر الحديث، اختار الزعيم الإيطالي الشهير بنيتو موسوليني كتاب “الأمير” موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراه، ويقال إن النازي الألماني أدولف هتلر كان يقرأ الكتاب قبل أن ينام كل ليلة.

غاية “الأمير” السامية

قسّم ماكيافيلّي الكتاب، وهو الأصغر حجما من بين 30 مؤلفا له، إلى 26 فصلا، وهو يرى فيه أن “الأمير لا ينبغي له التردد في اللجوء إلى بعض الإجراءات بالرغم من العيوب التي قد تعتورها، لأن في اللجوء إليها حتى ولو بدت مخجلة حفاظا على الدولة”.

في مقدمة الكتاب يقول المؤلف: “في عالم الخرائط الطبيعية يضع الجغرافي نفسه في السهول الواطئة ليرصد معالم الجبال والمرتفعات، ويضع نفسه على الجبال والمرتفعات ليرى السهول، وبالمثل فعالم السياسة، يجب أن يضع نفسه في الطبقات الشعبية ليفهم طبيعة الحكام، ومع الطبقة الحاكمة ليفهم طبيعة الشعب”.

ولقد ظل الفكر السياسي حتى عهد ظهور كتاب “الأمير” يتراوح بين النظر الفلسفي والنظر الديني، غير أن الكتاب جاء منفتحا على التاريخ الماضي والراهن معا، وأخذ الأمثلة من تجارب الفرس واليونان والرومان، واضعا بذلك حدا لهيمنة الفلاسفة ورجال الدين على الفكر السياسي، وساعيا إلى توحيد إيطاليا التي كانت تنقسم إلى إمارات ودويلات صغيرة متصارعة في ذلك العصر.

وفيما بعد، وعلى الرغم من هذا الهدف النبيل الذي سعى إليه الفيلسوف، عُرف السياسي أو الشخص “الماكيافيلِّي” بالوصولية والتسلق على أكتاف الآخرين لكي يصل إلى غاياته مهما كان الثمن، فهو لا ينظر لمدى أخلاقية الوسيلة المتبعة لتحقيق الغاية، وإنما إلى مدى ملائمة هذه الوسيلة لتحقيق هذا الغاية، فالغاية عنده تبرر الوسيلة، وهكذا بات اسم ماكيافيلِّي في مخيلة العامة مرادفاً للخيانة والكذب والافتراء، حتى أن علماء النفس باتوا يستخدمون المصطلح لوصف الشخصية التي تتصف بانعدام الأخلاق والغرور والخيانة، ولا تجد غضاضة في اتباع أي وسيلة مهما كانت منحطة من أجل الوصول إلى أهدافها، وهو ما لم يفكر فيه صاحب “الأمير” على الإطلاق!

وعلى أي حال، كان من أبرز معالم الفكر السياسي الغربي الموروث من لدن فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو وحتى العصور الوسطى، هو الاهتمام الدؤوب بمشكلة الحرية والسلطة، رغم التباين بين أفكار الفلاسفة الغربيين حول هذا الموضوع، وحاول ماكيافيلِّي اتباع منهج جديد مختلف عن مناهج من سبقوه، وهو منهج اختباري صرف قائم على دراسة التاريخ، وكذلك على ملاحظة الواقع، كان ذلك بعد دراسة النجاحات البشرية في وصول الناس إلى غاياتهم، ولو كانت هذه النجاحات هي من قبيل “نجاحات الأشرار”، وما دامت أمثلة الآثمين الناجحين أكثر عددًا من أمثلة القديسين الناجحين، وكانت وسائل الآثمين وسائل آثمة منافية لفضائل الأخلاق، فإن الغاية في السياسة تبرر الوسائل المنافية لفضائل الأخلاق، من أجل تحقيق النجاح المطلوب، ومن أجل الوصول إلى الغاية المقصودة، وهي الظفر بالحكم.

ولكن هناك فرقا بين مكيافيلي كما يقرأه الساسة، من خلال كتابه “الأمير”، ومكيافيلي كما يقرأه فلاسفة السياسة، من خلال كل كتاباته ورسائله. إن كتابات الرجل هي البداية الحقيقية للفلسفة السياسة الحديثة، لكونه ينتمي لنسق ثقافي هو النهضة الأوروبية، وهو بالتالي لا ينتمي للحاضر المعاش. وإذا كان بعض محترفي السياسة يعتقدون بإمكانية تأسيس علم للسياسة بمعزل عن الفلسفة السياسية، مقتدين في هذا الادعاء، بالاستقلال المنهجي للفيزياء والكيمياء عن الفلسفة، فإنّ الحقيقة التي يسعفنا ميكيافيلي في الوقوف عندها، هي أنّ الفلسفة السياسية هي جزء من علم السياسة، ذلك لأنّ الفلسفة السياسية لا تظهر إلا حينما تكون هنالك حياة سياسية، ولا تكون الحياة السياسية إلا حينما تكون المدنية الحديثة.

وتُوفي مكيافيلِّي في مطلع عام 1527 حينما داهمه المرض بعد أيام من عودته من منفاه إلى فلورنسا، حيث كان يأمل في الحصول على منصب سياسي بعد سقوط عائلة «ميديتشي» من سدة الحكم في فلورنسا مرة أخرى، وتم دفنُه بكنيسة «سانتا كروتشي» التي كان ممنوعًا من دخولها في السنوات الأخيرة من حياته، ولم يلتفت الناس إلى أهميته ككاتب وفيلسوف إلا بعد عقود طويلة من وفاته.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى