اختراعاتاختراعات طبية

كريستوفر هيرندون.. عندما يعاد الاعتبار للطب التقليدي

كريستوفر هيرندون : أحيانا ما تحجب هالة القداسة التي يضفيها دارسو العلوم الطبية الحديثة على “علمهم” في مقابل ما يعتبرونه تأخر وتخلف أحيانا، وكما كنا ندرس في تاريخ الفكر الأنثروبولوجي، فإن المغامرين والأنثروبولوجيين الأوائل، كثيرا ما وصفوا المجتمعات التقليدية، الأصلية، التي كانت (ولازال الكثير منها) يسكن كثيرا من بقاع العالم بـ”البدائية”، وبالتالي كان يوصم كل نسق فرعي من أنساق ثقافتهم بهذه السمة، بما في ذلك النسق الطبي.

ومع تنامي الوعي بمشكلات الحياة المعاصرة والنسق الطبي المعاصر، بدأ البعض يعيد النظر فيما كان آباؤه وأجداده يزدرونه، بما في ذلك دارسو علم “الأنثروبوجيا الطبية”، الذين باتت أجيال جديدة منهم تقدر للأنساق الطبية التقليدية قدرها.


من هؤلاء الباحث الأمريكي كريستوفر هيرندون Christopher Herndon رئيس مبادرة آكاتيه للحفاظ على الأمازون Acate Amazon Conservation. والذي درس كريستوفر الطب في جامعات عريقة مثل ييل وهارفارد، حيث حصل على الدكتوراه، وعمل على نطاق واسع خلال العقد ونصف الماضيين في بعض المناطق النائية في الأمازون لإجراء الأبحاث حول النباتات الطبية وأنظمة الشفاء لدى شعوبها القبلية، ومن تجاربه في العمل مع القبائل في جميع أنحاء الأمازون، أدرك كريس أن الجودة وتوفير الصحة المستدامة لمجتمعات السكان الأصليين تبدأ عندما تحترم ثقافتهم وأنساقهم، وتعمل بشكلٍ لا حصر له في إطار ثقافتهم وأنظمة الشفاء التقليدية لديهم.


وبعد عشر سنوات من العمل مع سكان ماتسيس Matses في منطقة غالفيز في بيرو، في قلب واحدة من أكثر المناطق تنوعًا بيولوجيًا ومهد من مهاد الحياة على الكوكب وهي غابات الأمازون المطيرة، قام كريس وآخرون من من السكان الأصليين باعتبارهم الحماة الحقيقيين للأمازون، فضلا عن باحثين وناشطين من المنطقة ومن الولايات المتحدة بتأسيس منظمة آكاتيه كمنظمة غير ربحية بهدف الحفاظ على هذا التراث الإنساني المشترك. وذلك من خلال مشاريع تعمل من خلال الدمج ما بين الحفاظ على كل من الثقافة والصحة والبيئة في نهج متكامل. حيث تجلب آكاتيه الدعم الذي يحتاجه السكان الأصليون في منطقة الأمازون في بيرو، حيث تتعرض مجتمعاتهم ومنطقتهم لضغوط متزايدة وتهدديات من صناعات الاستخراج مثل النفط والأخشاب والقرصنة البيولوجية، وهي تسعى لتوفير بدائل متجددة لهذه الصناعات الضارة بيئيًا واجتماعيًا.

وذلك من خلال العمل مباشرةً مع سكان ماتسيس، كواحدة من أكبر المجموعات السكانية الأصلية في غابات الأمازون المطيرة، من خلال تنفيذ برامج استراتيجية توفر إيرادات مطلوبة بشدة دون تدمير أراضيهم وطريقة حياتهم المختارة. وذلك لمساعدة ماتسيس والشعوب الأصلية الأخرى في الأمازون، على الحفاظ على أسلوب حياة أكثر استدامة ومواءمة، مما يمكن من حماية ورعاية كل من ثقافتهم ونظامهم البيئي. وتسير آكاتيه لتحقيق ذلك في ثلاث مسارات متكاملة:


– مسار الزراعة المعمرة: والذي يهدف إلى تعزيز المجتمعات وتوفير البنية التحتية من خلال بناء أنظمة حية ومستدامة ومُحكمة توفر الغذاء الأساسي لها، وتساعد في التخفيف من التبعية والتمكين لقبائل ماتسيس والحد من الحاجة للتضحية بطرقهم الثقافية وممارساتهم بسبب التبعية الغذائية والهيكلية. ولذا فقد تم تأسيس مركز إرشادي وتعليمي لهم في مجال الزراعة المعمرة Permaculture.


– ولتوفير إيرادات مستدامة من الغابات المطيرة تسعى آكاتيه لاستكشاف وتطوير نهج بديلة لتطوير مشاريع طويلة الأجل قابلة للتطبيق لتوليد الإيرادات وتوفير بدائل للأنشطة غير المستدامة والمدمرة. وتشمل هذه الحصاد والتسويق المستدام للمنتجات غير الخشبية للغابات ذات القيمة الطبية أو التجميلية، كما تعمل على تطوير تقنيات مثلى للاستخراج المستدام للمنتجات غير الخشبية للغابات. ووضع استراتيجية لوسيلة النقل الأكثر فعالية من حيث التكلفة لإرسال البضائع من مناطق الماتسيس البعيدة إلى الأسواق المحلية، كما تعمل آكاتيه كمستشارين للمساعدة في تطوير الاتفاقيات مع المشترين المحليين والوطنيين لشراء المواد.


– الحفاظ على الاكتفاء الذاتي للرعاية الصحية من خلال تعزيز النظم التقليدية للطب، وذلك من خلال تقديم الدعم البرامجي للشيوخ القبليين القدامى لتعليم ونقل المعرفة من الغابات المطيرة إلى الأجيال الشابة في مجتمع ماتسيس، وكذلك توثيق استخدامات النباتات الطبية والحفاظ عليها بلغتهم لصالح الأجيال القادمة.

وفي هذا الإطار عملت المبادرة على مدى سنين جنبا إلى جنب مع الشيوخ القبليين على وضع أكبر موسوعة للطب التقليدي لقبائل الماتسيس بلغتهم وعباراتهم المحلية، في مجلدين بحجم ألف صفحة، تضم وصفا تفصيليا للنباتات وطرق تجهيزها واستخداماتها الطبية، صدر الجزء الأول منها عام 2015، وصدر الثاني عام 2017. وقد أعربت المجتمعات المحلية عن اهتمامها بالمشاريع التي تشمل دمج الممارسات الطبية التقليدية (أي العلاجات العشبية المحلية)، استناداً إلى نموذج ناجح وقابل للتكرار تم تطويره وتنفيذه من قبل أعضاء فريق المشروع في المجتمعات الأمازونية الأخرى. وكما عبر كريس عقب الانتهاء من الجزء الأول من الموسوعة: فإن موسوعة [ماتسيس] للطب التقليدي هي الحدث الأول التي يخلق فيها الشامانيون من قبائل الأمازون نسخة كاملة لمعارفهم الطبية مكتوبة بلغتهم الخاصة وكلماتهم.


ربما كان للخلفية الطبية العميقة لكريستوفر هيرندون رئيس مجلس إدارة المبادرة والمؤسس الشريك لها، والتي تجمع بين الطب الحديث والطب التقليدي لقبائل غابات الأمازون وخاصة من الماتسيس سبب رئيس في أن يتضمن هذا المشروع البيئي التنموي المتكامل مكون الطب التقليدي للقبائل، وعندما يأتي هذا التقدير والاحترام للطب التقليدي من باحث درس الطب في أعرق وأشهر جامعات الولايات المتحدة في هذا المجال، فإن لهذا معنى عميق، ولا يمكن أن ينظر إليه باعتباره مجرد مشروع تنموي عابر كأي مشروع يساعد به سكان الشمال سكان الجنوب بنظرة ونظرية الكوب الملآن والكوب الفارغ التقليدية، والامتلاء والفراغ هنا من حيث الحضارة، والثقافة والمعرفة، فهذا المشروع يقول لسنا ممتلئين وليسوا فارغين، فإن لديهم من المعارف بكل عنصر دق أو جل من عناصر بيئتهم وخصائصه، بما لا يتوافر ربما لخريجي أعرق وأكبر الجامعات الحديثة في العالم، ومن ثم فإن احترام وتقدير ما لديهم واجب..لمن يعرف، أو يفقه مقدار ما لديهم بشكل عميق. 

د. مجدى سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى