المجلةبنك المعلومات

“السلفية السكندرية”.. مسارات التنظيم ومآلات السياسة

 “السلفية السكندرية”.. مسارات التنظيم ومآلات السياسة

السلفية السكندرية : بنفس بحثي عميق، ورصد للوقائع وثيق، وتحليل للمواقف والتطورات دقيق، أنجز الباحث المصري في شؤون الحركات الإسلامية، أحمد زغلول شلاطة، كتابه “الدعوة السلفية السكندرية.. مسارات التنظيم ومآلات السياسة”، الصادر بطبعته الأولى عن مركز دراسات الوحدة العربية في كانون الثاني/ يناير 2016.

وأشار المؤلف في مقدمة كتابه إلى أن إنجاز الدراسة تطلب منه جهدا بحثيا دام ما يقارب الأربع سنوات، وبسبب شح المعلومات المدونة والمكتوبة حول نشأة الدعوة السلفية السكندرية، وجذور تأسيسها، فقد وجد نفسه مضطرا للاعتماد بشكل رئيس على البحث الميداني، عبر المقابلات واللقاءات الشخصية والخاصة مع الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في الدعوة السلفية السكندرية، لاستقاء المعلومات مباشرة منهم، أو لتوثيق روايات تقال هنا وهناك من شهودها الأحياء.

ومن المؤكد أن حالة “الدعوة السلفية السكندرية” تستدعي دراسة علمية متأنية موثقة، ترصد مفاهيمها المؤسَّسة والمكوِّنة، وجذور نشأتها وظروف تكونها، وأيدلوجيتها العقائدية المحركة، ومواقفها من الآخر الإسلامي وغير الإسلامي، وموقفها من الأنظمة السياسية القائمة، وأين تقف من السياسة والعمل السياسي؟ وما موقفها من العمل الجماعي (التنظيمي)، والأهم من ذلك كله رصد وتحليل تجربتها في العمل السياسي بعد ثورة 25 يناير، والتي آلت إلى الارتماء في أحضان “النظام الانقلابي”، وقد أوفى المؤلف بما تصدى لبحثه بعلمية وموضوعية تستحقان الشكر والثناء الحسن.

ووفقا للكتاب، فإن إشكالية الدراسة المثارة “تشير إلى أن اللحظة الثورية منذ 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وما بعدها، تسببت في الصعود السياسي للتيار الإسلامي بعامة والسلفي بخاصة، بصورة أظهرت تنوعه الكبير وأكدت تشرذمه في الوقت ذاته، ومع حالة الزخم الذي أحدثوه سياسيا بعد انعدام حضورهم السياسي في ما سبق، فهذا لم يواكبه زخم فكري داخلي؛ بل مجموعة مُوائمات مرحلية من أجل الاستمرارية السياسية، وبدا ذلك تحديدا في سلوك جماعة “الدعوة السلفية” وتباين قوتها”.

سياقات النشأة والتكوين

في سياق رصده وتتبعه لجذور الدعوة السلفية ونشأتها في مدينة الإسكندرية، ذكر المؤلف أن “من أبرز الشخصيات التي أدت دورا في نشر الفكرة السلفية الشيخ محمد عبد الظاهر أبو السمح (1880ـ 1950) أحد أعضاء جماعة أنصار السنة المحمدية وإمام الحرم المكي وخطيبه فيما بعد، إضافة إلى الأساتذة عكاشة أحمد عبده، وبخاري أحمد عبده، ومحمد علي عبد الرحيم.. والشيخ عبد الحليم حمودة، وهو من أبرز رموز الدعوة في المدينة..”.

ومن الشخصيات البارزة في تاريخ الدعوة السلفية، الحاج محمد رشاد غانم تاجر الأنتيكات، والذي يصفه المؤلف بأنه “لم يكن له علاقة من حيث العمل والتخصص بالعلوم الشرعية، وإليه يرجع الفضل في نشر الفكر السلفي، وإمداد العاملين في حقل الدعوة، ومساعدة طلابه وتوجيههم وتوفير الكتب والمصادر التي يحتاجونها لهذا الغرض”.

ونتيجة لتطورات سياسية وفكرية متلاحقة، فقد ظهر إلى جانب السلفية التقليدية الدعوية الممثلة بجماعة أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية، ثلاث مدارس سلفية رئيسة:

– “السلفية العلمية”: منها “المنظمة” -أبرزها “الدعوة السلفية السكندرية”- والمشايخيات “غير منظمة”.

– “السلفية الحركية”: وهي مجموعات ـ منظمة وغير منظمة ـ سواء كانت قطبية أم سرورية.

– “السلفية المدخلية”: وهي التيار المدخلي الذي بدأ يظهر في أوائل التسعينيات عقب حرب الخليج الثانية.

وطبقا للمؤلف: “ففي حين كانت السلفية المدخلية امتدادا للتيار المدخلي في السعودية، فقد نجمت كل من السلفية العلمية والحركية محليا عن الانقسامات التي حدثت في الحركة الإسلامية في الجامعة المصرية في سبعينيات القرن الماضي، بعد ظهور ما سُمي بـ”جماعة الدراسات الإسلامية” ثم “الجماعة الدينية”، ثم “الجماعة الإسلامية”، التي كانت سلفية المنهج إلى حد كبير كما يؤكد جميع الشهود الذين عاصروا تلك المرحلة.

لكن الإخوان المسلمين لم يكونوا غائبين عن “الجماعة الإسلامية” في ذلك الوقت، وقد حدث -بحسب الكتاب- مع “استمرار تمددهم الفكري والتنظيمي في جسد الجماعة الإسلامية، منذ منتصف السبعينيات، تصادم مع المكون السلفي الموجود -والمسمى حينذاك “المدرسة السلفية”- تمثل بعدد من القضايا، التي أثارت الجدل وقتذاك بين أبناء الجماعة الإسلامية، وهي:

الموقف من المرأة: وقد ثار جدل شرعي حول “مسألة سفر المرأة بدون محرم” للمشاركة في أنشطة الجماعة الإسلامية، فالمجموعات المبايعة للإخوان نظمت رحلات للطالبات، آخذين بجواز سفرها بدون محرم، في حين اعترضت المدرسة السلفية على ذلك، لأنهم يرون عدم جواز سفرها بدون محرم.

قضية حلق اللحية: فمخالفة لـ”الجماعة الإسلامية” أصدرت  المدرسة السلفية كُتيبا يبين حرمة ذلك، مؤكدين أن هناك أربعة مذاهب تقول بحرمة حلق اللحية.

الثورة الإيرانية: أيّدها طلاب الإخوان من دون النظر إلى هويتها الشيعية، في حين رفضتها “المدرسة السلفية” تماما لخطرها على العقيدة.

ولفت المؤلف إلى أن تلك الخلافات ازدادت “على نحو تدريجي، ليأتي عام 1980 حيث حسم كل ذلك بالانفصال عقب اعتداء يدوي تم على أعضاء “المدرسة السلفية” في إحدى الفاعليات التي اعتاد القيام بها بجامعة الإسكندرية، ليبدأ كيان جديد باسم “الدعوة السلفية” بالتشكل، وذلك في جامعة الإسكندرية حيث يدرس شيوخ الدعوة المؤسسون”.

المفاهيم المؤسسة والأيدلوجيا المحركة

لا تختلف المفاهيم المؤسسة للدعوة السلفية السكندرية عن غيرها من السلفيات العلمية الأخرى، والأيدلوجيا المحركة هي ذاتها عند غالب الاتجاهات السلفية الأخرى، فاهتمامها الأكبر بقضايا التوحيد وتصحيح العقائد، والولاء والبراء في بناء شبكة علاقاتها، والانشغال بطلب العلم الشرعي وتعليمه،  والتركيز على تراث أئمة السلفية ورموزها الكبار كالإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام  ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، والاعتناء بإحياء السنن وتطبيقها، ومهاجمة البدع ومحدثات الأمور.

واعتبر المؤلف أن “الحفاظ على الهوية” يعتبر فكرة مركزية في وعي السلفيين على وجه العموم، ويصبغهم بقدر كبير من التمايز، وهو من المفاهيم المؤسسة في أدبيات السلفيينن “ولمركزية الفكرة في وعيهم أصبحت كل القضايا التي يشتبكون معها تحت راية “الحفاظ على الهوية”؛ فزي المرأة -كذلك الاختلالط- نتاج حملات تغريبية مخالفة للهوية الإسلامية، والانفتاح يهدد الهوية، والثورة الإيرانية تهدد الهوية، والتدخل الأمريكي في العراق يهدد الهوية”.

ويرصد المؤلف في إطار تحديده للأفكار والمفاهيم المؤسسة، خاصة في أوساط “الدعوة السلفية السكندرية” فكرة “العمل الجماعي” والتي حُسمت في أوساط الدعوة السلفية بتبني القول بمشروعية العمل الجماعي المنظم، “وبخاصة أن هذه الإشكالية إحدى أبرز نقاط الخلاف داخل المشهد الإسلامي بعامة، وسبب رئيس في تشظي المشهد السلفي بخاصة؛ حيث تتباين مواقف الإسلاميين من ذلك ما بين قائل ببدعية العمل، فالجماعة لا تكون إلا بعد التمكين ونصب الإمام، ومنهم من قال إن الجماعات الإسلامية قائمة على الحزبية والعصبية ولا يجوز الانتماء إليها”.

ومع ذلك القدر الجامع بين التيارات السلفية في أصولها المنشئة، ومفاهيمها المؤسسة، إلا أن ثمة اختلافات بين تياراتها المختلفة، كتلك الاختلافات التي رصدها المؤلف بين الدعوة السلفية والسلفية المدخلية، وبين السلفية الحركية والمدخلية، وبين سلفية السكندرية وسلفية القاهرة (محمد عبد المقصود وفوزي السعيد)، والتي تتمحور في غالبها حول الموقف من النظام السياسي، وهل الحاكم ولي أمر شرعي أم لا؟ وما هو التوصيف الشرعي له؟ وما هو حكم الخروج عليه؟

تقييم تجرية “السلفية السكندرية” في مشاركتها السياسية

كان لافتا انتقال الدعوة السلفية في الإسكندرية من موقفها الرافض بصرامة للديمقراطية، والمحرم للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، إلى اتخاذ موقف آخر مغاير لموقفها الأول تماما، إذ أعلنت في وقت لاحق قبولها بالديمقراطية، وتجويز المشاركة في الانتخابات البرلمانية، مخرجة ذلك كله بإعمال القواعد العشرة الحاكمة لعملية الموازنة بين المصالح والمفاسد كما يقدرها أعضاء مجلس إدارتها، وهم في غالبهم من الشيوخ المؤسسين.

وكان من نتاج ذلك التحول، توجه الدعوة السلفية في الإسكندرية، لإنشاء حزب النور، والذي كان من بنات أفكار عماد عبد الغفور، الذي أقنع شيخ الدعوة الأول محمد إسماعيل المقدم، بضرورة التوجه لإنشاء حزب سياسي، ثم ناقش الأمر مع بقية شيوخ الدعوة المؤسسين، الذين اقتنعوا بذلك، واتخذوا قرارهم بالموافقة عليه، وتفويض عبد الغفور برئاسة الحزب وإدارته.

ومن الجوانب التي طرأ عليها تغير هائل في أفكار الدعوة السلفية ومواقفها كما يرصدها المؤلف، موقفها من المشاركة السياسية للمرأة، فبينما كان دور المرأة فيما سبق مهمشا، باتت الدعوة تهتم بإقامة نشاطات خاصة بالمرأة، ويرصد المؤلف ما وصفه بـ”الخطوة اللافتة للنظر والمدهشة”، تنظيم الدعوة وحزب النور المؤتمر النسائي الأول تحت عنوان “دور المرأة المصرية في العمل السياسي، في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2011، بحضور عماد الدين عبد الغفور رئيس حزب النور، وياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية، والداعية حازم شومان، كمحاولة سلفية لمحو الصورة الذهنية عن السلفيين بأنهم ينظرون نظرة دونية إلى المرأة..”.

لكن كيف يمكن تفسير نجاح حزب النور في مدة قصيرة في تحقيق نجاحات كبرى بصورة هددت الإخوان في بعض المراحل؟ يجيب المؤلف بقوله: “يتلخص الجواب في نجاح الحزب في جذب موارد مادية من قطاعات إسلامية، وتحديدا من السلفية السائلة غير المؤطرة تحت أي راية، والتي رأت نفسها أقرب إلى دعم حزب سلفي، كذلك وجُدت موارد مادية غير إسلامية صوتت تصويتا عقابيا لحزب الإخوان بسبب رفضها عودة رموز الحزب الوطني، أيضا تحفظا عن جماعة الإخوان المسلمين، وانعكس هذا فيما بعد على بعض ممارسات الحزب وبخاصة مع جماعة الإخوان المسلمين، باعتبار نظرته إلى نفسه على أنه صاحب الكتلة  الإسلامية الأكبر والأقوى.

تتبع المؤلف مواقف حزب النور، الذراع السياسي للدعوة السلفية في الإسكندرية، والتي كان آخرها موقفه المُبارك للانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي، حينما ظهر “الأمين العام للحزب جلال المرة مع السيسي وشيخ الأزهر وبابا الإسكندرية وعدد من السياسيين في بيان 3 تموز/ يوليو والذي أعلن فيه عزل مرسي”.

لقد كان المؤلف دقيقا في توصيفه لتخبط الدعوة السلفية في الإسكندرية، وأن ما قامت به عبر ذراعها السياسي حزب النور، إنما كان نتاج “مأزق معرفي” في التوفيق بين الشرعي والسياسي نتيجة القصور العلمي والمعرفي لمؤسسي الدعوة السلفية؛ حيث صاروا شيوخا وزعماء قبل امتلاك الأدوات اللازمة لمثل هذه الأمور، فاضطروا لاستكشاف كل القضايا الشائكة من خلال اجتهادات شخصية لا ترقى إلى أصول الاجتهاد..

الكتاب حافل بالرصد الدقيق، والتحليل العميق، والمعالجة المتأنية لكثير من القضايا الجوهرية الهامة، وهو يعد بحق مرجعا في قراءة هذه التجرية بأصولها ومفاهيمها المؤسسة، وشبكة علاقاتها مع القوى الإسلامية وغير الإسلامية، خاصة مع الإخوان المسلمين المحكومة بخلافات قديمة، وعلاقتها مع السعودية موافقة ومخالفة، وطريقة وآلية اتخاذها للقرارات، ورسم السياسات، وتحديد المواقف، المتسمة في غالبها بـ”الارتباك” على حد تعبير المؤلف، والتي جاءت في الوقت ذاته صادمة لكثير من محبي الدعوة السلفية ومؤيديها داخل مصر وخارجها، وتركت صورة قاتمة وبائسة عن مشاركتها السياسية، تمنى الكثيرون لو أنها نأت بنفسها عن ذلك كله، وحافظت على خطها الدعوي المعهود.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى