المجلةبنك المعلومات

حقول التجارب

قبل البشر استخدام الحيوانات كحقل تجارب في المختبرات من أجل اختراع الأدوية. الهدف هو علاج الأمراض وتحسين صحة الانسان. الغاية خيرة والوسيلة على العموم مبررة على نطاق واسع. فلم نشهد الى اليوم احتجاجات يعتد بها على هذا اللعب بمخلوقات الله من أجل خدمة خليفته. وقد يكون ذلك جزءا من التكريم الذي خص به الانسان.

لقد سيطر الانسان على الطبيعة الى حد كبير وجعل كل ما فيها من اشياء وزرع وحيوان وجمال مجالا لإغناء حياته وعلمه وفكره ورفاهه واستمتاعه. وحيوان الاختبار أحد وجوه سيطرة الانسان على الطبيعة.

ومثلما صنع الانسان مختبرات للطبيعة صنع بالمثل مختبرات لنفسه. والتاريخ هو عبارة عن مسرح اختبارات وتجارب البشر من أجل تحسين شروطهم المعيشية وجعل حياتهم أكثر احتمالا. ولكن المختبر الذي يوضع فيه الانسان غير المختبر الذي توضع فيه الطبيعة. مختبر الطبيعة هو كنز الإنسان بلا خلاف. ومختبر الانسان هو مسعى التنوير والتقدم الذي كله خلاف.

لم يعرف الانسان منذ ارتفع درجة عن الحيوان، وأصبحت له روح، ماذا يريد والى أي هدف يسعى. ورسالات الأنبياء والفلاسفة والآداب والفنون هي المسعى البشري الذي لا ينقطع لمعرفة الهدف من الوجود وسبل الارتقاء بهذا الوجود. وفي هذه الطريق الطويلة اخترعت البشرية ألوانا من الأنظمة السياسية لتتولى قيادتها وحملها على السير باتجاه “الطريق الصحيحة”. وهذه “الطرق الصحيحة” هي بمثابة المختبرات التي وضعت فيها المجتمعات، لتخرج بها اما صحيحة متعافية فعلا او عليلة ممروضة. او فيها من هذا شيء ومن ذاك شيء، او عافية أكثر من المرض او العكس. وقد تكون جميع هذه الاختبارات صحيحة بالقياس الى عصرها وزمنها.

ولم تشتد وطأة” المختبرات السياسية” وتبلغ الذروة في التوحش مثلما حدث في القرن العشرين. وسيتذكر التاريخ دائما سمة رئيسية طبعت ذلك القرن متمثلة بالعنف. وكانت النازية والشيوعية من العناوين الكبرى لذلك العنف. وكلتاهما آمنت بان هناك امكانية “حل نهائي” -على اختلاف مضمون الحل – لمعضلة الانسان والوصول الى المدينة الفاضلة. فولد من الفكرتين نظام جديد تماما على مسرح التاريخ سمي النظام الشمولي او”التوتاليتاري”، وهو الذي أوصل القمع بمساعدة التكنولوجيا الى مستوى الكمال.

وبفشل النازية ثم الشيوعية ربحت الديمقراطية الجولة ومنحت زخما جديدا على مستوى العالم.

والديمقراطية نظام من طينة البشر. فارغ من الكمال ومليء بالنواقص.هدفه مركز على الرفاه والحرية. فاذا لم يبلغ منهما الغاية فانه يشحذ آلياته وطاقاته من أجل تقليل التطرف في المعاناة. فالعاطل عن العمل في هذا النظام لن يستطيع تلبية رغباته او يشبع حاجاته الكمالية، ولكن حاجاته الأساسية من طعام وملبس وسكن وتعليم وصحة مؤمنة.

وهكذا فان مختبر التاريخ الانساني دخل مرحلة النضوج فيما يعرف بالديمقراطيات. وبقي الدور على مجتمعات ما قبل الديمقراطية من أمثالنا. نحن مازلنا محشورين في المختبرات، أسرى فقدان البوصلة، واقفين او قاعدين عند تقاطع الطرق.

ما أسهل طب الجسد. ما أصعب طب الروح. المثل موجود في طب الجسد والناس تقبل عليه دون سؤال او جواب. والمثل موجود في طب الروح ولكن بين الناس وبينه حصبة وجدري.
احمد المهنا
إيلاف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى