المجلةبنك المعلومات

البحث العلمي العربي.. معوقات وتحديات

يتضح في ما يتصل بالإنفاق على البحث العلمي ورفع مستوى التكنولوجيا الموجودة، والذي يستخدم في قياس فاعلية عمليات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي لعملية التنمية، أنّ نسبة ما ينفق على البحث العلمي قياساً إلى الناتج المحلّي الإجمالي، شهد ارتفاعاً في الأقطار العربية من 0.31 % عام 1970 إلى 0.67% عام 1990.. وعلى الرغم من هذا الارتفاع لا تزال هناك فجوة كبيرة بين الأقطار العربية والمجموعات الدولية في هذا المجال. وتختلف الأقطار العربية فيما بينها من حيث حجم الإنفاق على البحث العلمي.. والملاحظ أنّ نسبة الإنفاق على البحث العلمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لم تتعد 0.5% في الأقطار العربية كافة لعام 1992 وهي نسبة ضئيلة عند مقارنتها بمثيلاتها في السويد وفرنسا حيث بلغت 2.9 %، و2.7 % على التوالي(37)..

البحث العلمي العربي.. معوقات وتحديات

وفي عام 1999 كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في مصر 0.4 %، وفي الأردن 0.33%، وفي المغرب 0.2%، وفي كل من سوريا ولبنان وتونس والسعودية 0.1% من إجمالي الناتج القومي، وتؤكد ذلك إحصائيات اليونسكو لعام 1999.

أما إحصائيات سنة 2004 لنفس المنظمة العالمية.. فتقول إن الدول العربية مجتمعة خصصت للبحث العلمي ما يعادل 1.7مليار دولار فقط، أي ما نسبته 0.3 % من الناتج القومي الإجمالي.. في حين نلاحظ أنّ الإنفاق على البحث العلمي في (إسرائيل) (ماعدا العسكري) حوالي 9.8 مليارات شيكل، أي ما يوازي 2.6 % من حجم إجمالي الناتج القومي في عام 1999.

أما في عام 2004 فقد وصلت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في إسرائيل إلى 4.7 % من ناتجها القومي الإجمالي (38).

ويُعدّ القطاع الحكومي الممول الرئيس لنظم البحث العلمي في الدول العربية، حيث يبلغ حوالي 80 % من مجموع التمويل المخصص للبحوث والتطوير مقارنة ب3 % للقطاع الخاص و8 % من مصادر مختلفة، وذلك على عكس الدول المتقدمة و(إسرائيل)، حيث تراوح حصة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي 70 % في اليابان و52 % في (إسرائيل) والولايات المتحدة والدول الأخرى. ومن جهة ثانية فلقد غلبت مهمات التدريس على حملة الشهادات العالية (ماجستير ودكتوراه) في الدول العربية، وانعكس المستوى المنخفض للدعم المالي للبحث العلمي في موازنات الجامعات العربية على إنتاج البحوث، التي لم تستنفد سوى 31 % من مجموع وقت عمل الباحثين كافة.. علماً أن الجامعات تستخدم ما يزيد عن 19 % من مجموع الاختصاصيين وحملة الشهادات العليا في الدول العربية.. يضاف إلى ذلك العلاقة الهزيلة أو المعدومة بين قطاع الصناعة وعالم الأعمال من جهة، ومؤسسات البحوث الجامعية وغير الجامعية من جهة أخرى مع تركيز اهتمام الأساتذة على القيام بأبحاث بهدف الحصول على الترقيات الأكاديمية، التي لا علاقة لها بأسواق العمل(39).. والواقع أنّ البلدان العربية بصورة عامة تفتقر إلى سياسة علمية وتكنولوجية محددة المعالم والأهداف والوسائل! وليس لدينا ما يسمّى بصناعة المعلومات، ولا توجد شبكات للمعلومات وأجهزة للتنسيق بين المؤسسات والمراكز البحثية، وليس هناك صناديق متخصصة بتمويل الأبحاث والتطوير.

إضافة إلى البيروقراطية والمشكلات الإدارية والتنظيمية، وإهمال التدريب المستمر سواء على الأجهزة الجديدة، أو لاستعادة المعلومات العلمية ورفع الكفاءة البحثية.

ولا شكّ أنّ بلداناً عربية عديدة لديها كل الإمكانات البشرية والبنيوية والأكاديمية للتقدم في هذا الميدان، شرط أن تمتلك الإستراتيجية الواضحة للبحث العلمي، وأن تخصّص نسبة معقولة من دخلها الوطني على الإنفاق في مجالات البحث العلمي، وأن يكون الإنفاق موجهاً بشكل خاص على البحوث القابلة للتطبيق، وإيجاد آليات تنسيق وتعاون بين رجال المال والأعمال والقطاع الخاص من جهة، ومراكز البحث العلمي والتطوير من جهة أخرى (40).. أمّا بالنسبة إلى الإنتاجية العلمية في الوطن العربي، فالملاحظ هو حجم التفاوت في المساهمة من قطر إلى آخر.. ومن المعايير الهامة التي تساعد على إعطاء صورة عن مدى تقدم أو تخلّف البحث العلمي، نشير إلى عدد البحوث وإنتاجية الباحث.. علماً أنّ الإحصاءات المتاحة في هذا المجال ما زالت قليلة، فقد أظهرت إحدى الدراسات أن ما ينشر سنوياً من البحوث في الوطن العربي لا يتعدى (15) ألف بحث.. ولما كان عدد أعضاء هيئة التدريس نحو (55) ألفاً، فإنّ معدّل الإنتاجية هو في حدود (0.3) وهووضع يرثى له من حيث الإمكانات العلمية والتكنولوجية في مجال الإنتاجية العربية، إذ يبلغ (10 % من معدلات الإنتاجية في الدول المتقدمة) (41).. وقد أشار أنطوان زحلان(42) إلى أنّ العلماء العرب أسهموا في الأقطار العربية بنحو ثمانية آلاف بحث علمي في عام 1996 للمجلات الدولية المحكمة. وهو رقم يزيد عمّا أنتج في البرازيل، ويبلغ (60) % مما أنتج في الصين، و(50) % مما أنتج في الهند، ويزيد بنسبة (30) % عمّا نشر في كوريا الجنوبية خلال العام نفسه..

في حين كان إجمالي البحوث العلمية العربية في عام 1967م (465) بحثاً، أي أن زيادة حصلت قدرها تسعة عشر ضعفاً في عدد البحوث خلال الثلاثين سنة الماضية.

أمّا في الكويت والسعودية على سبيل المثال فقد بلغت الزيادة حوالي مائتي ضعف، وأنّ معدّل البحوث المنتجة بالنسبة إلى الفرد الواحد في كلا القطرين يضاهي الآن هذا المعدّل في دول (النمور الآسيوية).

كما أن أقطار مجلس التعاون الخليجي (التي يبلغ سكانها نحو 5 % من سكان الوطن العربي)، هي الآن في المقدمة في ميدان النشر في الوطن العربي، بل إنّ هذه الأقطار فاقت مصر في عام 1989 (والتي يبلغ سكانها 20 % من سكان الوطن العربي) وذلك للمرة الأولى.

وأن إنتاج السعودية وحده ازداد من نحو(5) % من إنتاج مصر في عام 1975 إلى (70) % منه في عام 1995. وعموماً يبلغ الإنتاج العلمي للوطن العربي الآن (72) % من إنتاج (إسرائيل)، وكان يبلغ (40) % منه في عام 1967.. ومع أنَّ هذا يمثّل تحسناً، إلا أنه جرى على مدى ثلاثين سنة تقريباً، ومثل هذا التقدّم العربي البطيء يشير إلى تعثّر واضح في هذا المجال حالياً، وربما كذلك بالنسبة إلى المستقبل.

والفارق الرئيس بين النشاط العلمي في الوطن العربي وفي أقطار متقدمة في (العالم الثالث) كالصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل، يكمن في أنّ الأخيرة قد قامت بإنشاء منظومة قومية لنشر المعرفة في أرجاء القطر، ولم يتم بعد تطوير مثل هذه المنظومة في الوطن العربي.. بمعنى آخر أنّ الأقطار العربية لم تنتفع بعد من قوى العلم والتقانة المتقدمة إلا على نطاق ضيّق، بالرغم من الموارد المتنوعة والكثيرة التي يمكن استثمارها في هذا المجال، بل إنّ وجود اثنين وعشرين قطراً عربياً أصبح يعني أن هناك اثنين وعشرين حاجزاً أمام انتشار تقدم علمي يحقق في أحد هذه الأقطار إلى أقطار أخرى.

والمشكلة حتى أكثر خطورة من ذلك، فغالباً لا يجد الباحث طرقاً مناسبة لنشر نتيجة ما توصل إليه حتى في قطره، أو القطر الذي أجرى فيه بحثه.

البحث العلمي في خطر!!

نعم في خطر.. فإلى جانب هذه الأرقام غير المشرّفة.. فإن الوطن العربي ليست فيه قاعدة بيانات عربية عن النشاط العلمي الجاري، وليست هناك قاعدة بيانات عن هذه المعاهد أو المراكز والهيئات التي تجري البحث العلمي، وليست هناك وسائل مناسبة أو متوفرة بيسر لنشر النتائج التي يتوصل إليها العلماء أونشر خبراتهم. وليست هناك وسائل مباشرة وفعّالة لنقل الخبرة إلى المؤسّسات الصناعية العربية، أو مكاتب الاستشارات، أو شركات المقاولات العربية (43).. وانظر إلى (هجرة الأدمغة العربية) وتأثيراتها الكبيرة على عملية التنمية العربية، ولا سيما ما تسببه من خسائر مادية وعلمية للأقطار العربية.

ونضيف هنا مثالاً واحداً وحسب على نوعية الكفاءات العربية المهاجرة إلى الغرب، فهناك حوالي عشرة آلاف مهاجر مصري يعملون في مواقع حساسة بالولايات المتحدة الأمريكية (44) من بينهم ثلاثون عالم ذرة يخدمون حالياً في مراكز الأبحاث النووية، ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الأسلحة الأمريكية الموضوعة تحت الاختبار، مثل الطائرة (ستيلث 117) والمقاتلة (ب2) و(تي 22).

كما يعمل 350 باحثاً مصرياً في الوكالة الأمريكية للفضاء (ناسا) بقيادة العالم الدكتور فاروق الباز، الذي يرأس حالياً (مركز الاستشعار عن بُعد) في (جامعة بوسطن).. إضافة إلى حوالي ثلاثمائة آخرين، يعملون في المستشفيات والهيئات الفيدرالية، وأكثر من ألف متخصص بشؤون الكومبيوتر والحاسبات الآلية، خصوصاً في ولاية (نيوجرسي) التي تضم جالية عربية كبيرة.

ويُشار هنا إلى مساهمة عدد من أساتذة الجامعات المصريين في تطوير العديد من الدراسات الفيزيائية والهندسيّة في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، وخاصّة في جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعتي (بوسطن) و(نيوجرسي).. وعلى رأسهم العالم المصري (أحمد زويل)، الذي مُنح جائزة نوبل للكيمياء في عام 1999، وهو الذي يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.. وعموماً فإنّ خسارة القدرات البشريّة المتخصّصة، تفقد العرب مورداً حيوياً وأساسياً في ميدان تكوين القاعدة العلمية للبحث والتكنولوجيا، وتبدّد الموارد المالية العربية الضخمة التي أُنفقت في تعليم هذه المهارات البشريّة وتدريبها، والتي تحصل عليها البلدان الغربية بأدنى التكاليف. ففي وقت هاجر فيه أو أجبر على الهجرة! مئات الآلاف من الكفاءات العربية إلى الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية، تدفع البلدان العربية أموالاً طائلة للخبرات الدولية (45).. الأمر الذي يحمّل المشروعات الصناعية العربية تكاليف إضافيّة (للخدمات الاستشاريّة والعمولات والرشاوى والتلاعب بالأسعار)، بنسبة تتراوح بين 200300 % مقارنة بالتكاليف الأولية، وأنّ قيمة الارتفاع في هذه التكاليف خلال خمس سنوات فقط (ما بين 1975 و1980)، بلغت 25 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي الإنفاق العربي في مجالات التعليم والبحوث والتقانة في المدّة من 1960 إلى 1984(46) وفي بداية هذا العام (2005) أنهى أساتذة وطلاب الجامعة اللبنانية إضراباً مفتوحاً كانوا قد نفذوه على مدى شهر ونصف الشهر. ومن جملة مطالبهم زيادة الحصة المخصصة في ميزانية الدولة للجامعة اللبنانية، وتفعيل البحث العلمي.. لقد صرّح البروفيسور الفرنسي (فرنسوا جاكوب) (جائزة نوبل في الطب عام 1965) أثناء أزمة البحث العلمي في فرنسا، قائلاً: (من المؤسف أن العلم لا يهم عالم السياسة)! فماذا نستطيع نحن أبناء العالم الثالث أن نقول عن اهتمام السياسيين بالقطاع البحثي، فلعل ناقوس الخطر حول أزمة البحث العلمي والذي تقرعه الدول المتقدمة! يلفت انتباهنا إلى ما نعانيه نحن في هذا الشأن، ونقدم على معالجة الأزمة قبل أن تستفحل..

معوقات البحث العلمي العربي:

ويمكن تلخيص تلك المعوقات التي تقف في مسيرة البحث العلمي المصري والعربي على النحوالتالي: هناك معوقات علمية، ومعوقات عملية(47)..

المعوقات العلمية:

وتتجلى في ضعف التعاون والتنسيق البحثي، فكلٌ يدخل البحث العلمي بمفرده، فرداً، أو جماعة، أو مركزاً،.. أو جامعة، أو دولة.. ويمكن تلخيص أهم المعوقات للتعاون في إحدى مجالات البحث العلمي فيما يأتي:

1 عدم وجود إستراتيجيات أو سياسات لمعظم الدول العربية في مجال البحث العلمي.

2 ضعف المخصصات المرصودة في موازنات بعض الدول العربية.

3 هروب العنصر البشري من بعض الدول العربية واعتمادها على العناصر غير المدربة.

4 ضعف قاعدة المعلومات في المراكز والمختبرات والمؤسسات الإنتاجية لبعض الدول.

5 عدم معرفة أهمية المراكز البحثية في بعض الدول العربية.

المعوقات العملية:

وأهم ما فيها بالطبع ضعف الإنفاق على البحث العلمي، فمن الحقائق المؤلمة جداً أن ما ينفق على البحث العلمي في العالم العربي إنفاق ضعيف جداً، ولا يمكن مقارنته بما تنفقه الدول الكبرى بل ولا بما تنفقه إسرائيل في هذا المجال كما بيّنا..

وقد نتج عن ذلك ظاهرتان في غاية الخطورة والتدمير:

أولاهما: ضعف مستوى البحث العلمي، وقلته، وعدم إسهامه في التنمية.

وثانيهما: هجرة العلماء من العالم الثالث إلى الدول المتقدمة، وهذه كارثة أطلق عليها العلماء (نزيف المخ البشري)، أو (هجرة العلماء).. والله من وراء القصد.

محمد مسعد ياقوت

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى