المجلةبنك المعلومات

عم صبري ..الموظف على المعاش و النسخة المصرية من بنك جرامين

عم صبري : في 2006 أعلنت الأكاديمية السويدية منح جائزة “نوبل” لرجل أثبت أن الفقر يمكن هزيمته وقهره، وهو الاقتصادي البنجلاديشي “محمد يونس” مؤسس بنك جرامين، وعلى الضفة الأخرى من العالم في “مصر” كان هناك رجل يبحث في القرى والنجوع والمناطق الشعبية شديدة الفقر، والمعدمة من الإسكندرية ومطروح شمالا، حتى أسوان والنوبة جنوباً، مستلهما نفس المبدأ الذي سار عليه “يونس” بإقراض الفقراء والمعدمين.

هذا الرجل هو عم “صبري عبد العال ” الموظف على المعاش والذي لم يسمع في حياته ببنك جرامين ولا بمؤسسة البروفيسور الشهير “محمد يونس”، وربما بدأ الفكرة نفسها قبل أن تظهر حتى فكرة “جرامين” إلى النور، لكنه سار على نفس الدرب.

يوضح صبري عبد العال أو “عم صبري” كما يحب أن يناديه الناس أن ما يفعله في مشروعه مستمد من السيرة النبوية، ويستشهد  بالأثر النبوي حينما جاء فقير لرسول الله يسأله المعونة، فأعطاه النبي درهما ليشتري حبلا يساعده على الاحتطاب، وبعدها جاء للنبي وعليه أثر النعمة من جراء عمله وجهده، فقال الرسول للرجل ولأمته من بعده: “لأن يأخذ أحدكم حبلا فيبيع فيأكل خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”، والكلمة النبوية صارت عنوانا –كما يقول عم صبري- لعمله في العمل الخيري.

ويبدأ عم صبري مشروعه مع الأسر بالتقرب منها، حيث يأكل ويشرب  معهم ويعيش ظروفهم عن قرب، ويفكر سويا مع رب الأسرة كيف يدبر طريقة تجعل له دخلا ثابتا يتم الاعتماد عليه دون الحاجة إلى طلب مساعدة.

يبدأ عندها  “عم صبري” في سؤال رب الأسرة، أو أحد أفرادها عن “الحبل والحطب” -كلمة سر مشروعه- أي عن العمل الذي يستطيعون القيام به، ويبدأ هو بعدها في توفير قرض للأسرة يبدءون به مشروعهم، ويحصّل بعدها قرضه الذي دفعه إليهم من مكسب مشروعهم، وهو قرض لا يقل عن 7 جنيهات، ولا يزيد عن 200 جنيه مصري ( الدولار= 5.4 جنيهات مصرية)، وفي الأغلب –كما يقول- لم يقرض عم” صبري” أسرة فقيرة ولم تسدد القرض الذي أخذته.

بائعة الفجل

زرت “عم صبري” في منزله بمنطقة المرج “غرب القاهرة”، وعندما وطئت قدماي البيت وجدت جهاز كمبيوتر استخدمه -حديثا- لمتابعة الأخبار في الصحف، ودفترا يقيد فيه الأسر الفقيرة التي يتعامل معها،  وعلى رفوف أخرى مجموعة كبيرة من “الخبز البلدي”، ورفوف أخرى عليها مجموعة كبيرة من الكتب منها كتيبات لعمرو خالد، وأجزاء مصحف صغيرة كثيرة؛ عندما عرفت سبب وجود هذه الأشياء زاد إعجابي كثيرا بهذا الرجل.

كان من وجهة نظر “عم صبري” عندما سألته كيف تقوم مشروعات بمثل تلك المبالغ الصغيرة؟ أجابني قائلا: “ستستغرب عندما تعلم أن أفضل المشروعات التي نجحت قامت على رأسمال قدره 7 جنيهات فقط، وهو مشروع الست (سناء) وهي لا تبعد عن منزلي سوى أمتار قليلة لو أحببت أن تراها وتسألها”.

أخبرني أنه عندما عرف ظروف “سناء” وهي أرملة تعول ولدين جلس معها، وأقنعها أن العمل أفضل لها ولولديها من استجداء الصدقات من الناس، وتناقش معها فيما يمكن أن تفعله؛ وأخيرا اهتدوا إلى أنها تستطيع أن تبيع “خضارا” بالمنطقة وبالفعل أعطاها “عم صبري” 7 جنيهات لتشتري فجلا وليمونا، ولم يتكلم عنها كثيرا، فقط طلب مني أن أذهب لأرى ما تبيعه في الشارع.

توجهت إلى حيث تجلس سناء فوجدتُ امرأة تجلس بجوار “كومة خضار” عندما عرفت بقصتي قالت لي: “الله يكرمه الحاج صبري قادر يا كريم، النهاردة أنا جنب الفجل والليمون وبقية الخضرة ببيع كميات كبيرة من (الكسكسي) لمحلات البقالة اللي بتكيسه – وضعه في أكياس بلاستيك-ربك والحق الشغل بيعمل كرامة للبني آدم حتى لو هناكل العيش حاف”.

يقول لي “عم صبري”: “المبدأ عندي ليس السبعة جنيه ولا الـ200 جنيه أنا ممكن أعطيهم أكثر من ذلك، لكن الموضوع أن هؤلاء يؤمنون أن العمل أهم من مد الأيادي”.

يضيف “عم صبري”: “تصدق إن فيه أسر ردت لي فلوسي ورفضت تماما أن تستمر في مشروعها لأنهم وجدوا الناس بطلوا يعطوهم مساعدات لما وجدوهم بيبيعوا ويشتروا ووجودا إن الشحاتة من الناس بتجيب فلوس أسرع وأسهل وأكتر، قالوا لي: مش عايزينك يا عم ولا عايزين مشاريعك إنت وقفت حالنا”.

وضحك عم صبري وهو يقول: “المشكلة مش في صغر أو كبر القرض، المشكلة في العقلية اللي تقبل بكده أو ترفضه”.

أخبرني أن هذا الصنف من الناس كانوا من أكثر العوائق التي قابلته في طريقه، حينما كانوا يحكون له –كما يقول- قصصا حزينة عن أوضاعهم، وفي الحقيقة هم متسولون محترفون يأخذون من فلان وفلان، رغم يسر حالهم.

يضيف عم صبري: “لكن أنا واجهت المشكلة عن طريق الزيارات المستمرة لهم، وفي غير أوقات معروفة للتعرف حقيقة على أحوالهم وظروفهم، وبالشكل ده ما قدرش حد ينصب عليا، بعكس كثير من الأغنياء الذين يعطون بلا حساب، وبلا تدقيق”.

شبكة علاقات اجتماعية

حكى لي “عم صبري” عن نماذج كثيرة بلورت مشروعه في الصعيد والمناطق الشعبية بالقاهرة والجيزة، بل حتى أسوان والواحات، بدءا من “الست فاطمة” التي قامت بعمل مشروع لبيع الخبز وهو الخبز الذي رأيته في بيته، مرورا بعم “سيد” الذي صار بائعا شهيرا للفول في منطقته، وانتهاء بلوازم تركيب (دش للاستحمام) الذي يشرف على تركيبها في مساجد القرى الفقيرة بأقاصي الصعيد أحد المستفيدين من قروضه.. النماذج لا تنتهي مع عم صبري.

لم تكن أسرة عم صبري المكونة من زوجته وابنه الذي يعمل مندوبا للمبيعات بشركة أدوية، عائقا أمام سفرياته وتجواله في أرجاء مصر بحثا عن الفقراء، حيث كانت زوجته تعلم بالفعل برسالته التي وهب نفسه من أجلها منذ كان عمره 8 سنوات يتجول مع والده المقاول يبني للباشوات عزب بأكملها، بينما ينطلق هو ليبحث عن صفائح السمن الفارغة ليغسلها وينظفها ويملأها بالمياه، ويضعها في المساجد الخالية من دورات المياه.

عندما سألته من الذي يدعم مشاريعه، أجاب: “في البداية كنت أقوم بهذا المشروع بمفردي، وإمكانياتي المحدودة، وبعد أن توظفت في هيئة التليفونات عام 1962م، صرت أجتزئ من راتبي لهذه المشاريع الصغيرة، وكانت زوجتي عونا لي بتشجيعها لي وصبرها على تحمل سفري الذي قد يطول لعدة أسابيع، ساعد على ذلك صغر أسرتي، فلدي ولد وحيد فقط”.

يضيف عم صبري: “بعد فترة تعرف على المشروع مجموعة من أهل الخير، حيث كنت أراسل المرحوم عبد الوهاب مطاوع في بريد الأهرام، وقد أُعجب بالمشروع هو ومجموعة من متابعي البريد في الأهرام، وتكونت شبكة علاقات خير ضخمة صارت هي العون الرئيسي في دعم الفقراء، وقد فوجئت بعد فترة بكم تبرعات ضخمة فوق طاقتي، لذا تكونت جمعية خيرية لتتحمل هذا العبء هي جمعية (عطاء الخير) بحدائق المعادي بالقاهرة، دعيت لكي أصبح عضوا مؤسسا وفاعلا فيها، لكن أنا باحب الشغل لوحدي أفكر وأرتب وأنظم زي ما أنا عايز، وقد عُرضت علي أموال كثيرة كبيرة من موسرين لكن لا أستطيع تحمل هذه الأموال الكبيرة، أنا يا سيدي شغال على الحاجات الخفيفة”.

مشكلة أطفال الشوارع

كانت أمنية عم صبري في “العمل الخيري” التي يتمني تحقيقها هي أن يجد حلا لأطفال الشوارع يستثمر قدراتهم بدلا من تركهم للضياع، وضرب مثالا بمحافظ البحيرة السابق وجيه أباظة الذي انتشل أطفال الشوارع وبني لهم مجموعة مصانع، ومراكز تدريب، واستطاع أن يؤسس من بينهم فرقة “فنون شعبية”، أخذت جوائز عالمية وخلت شوارع البحيرة في عهده من أطفال الشوارع.

أحد أحلام عم صبري التي تمني أن تتحقق هي أن تصبح هناك مؤسسة تعمل على تجميع كل الجمعيات والمؤسسات الخيرية بكل مناطق مصر، لتسهيل المهام على المتبرعين، وتنظيم العمل الخيري، حتى لا يتم تدفق المعونات والهبات لمحتاجين فقط بعينهم.

نسيت أن أقول إن الكتب الكثيرة وأجزاء القرآن التي يضعها “عم صبري” في بيته يوزعها على الأسر التي فيها شخص يعرف القراءة والكتابة، فهو يدرك أن الإنسان لكي يبني لابد له من العمل والعلم، لذا فهو يوزع الخير بيمينه، والعلم بيسراه.

أحمد عبد الحميد
نقلا عن إسلام أون لاين

زر الذهاب إلى الأعلى